منذ أن وصل آل الأسد لسدة الحكم في سوريا، شكل هذا النظام خاصرة رخوة للأمة العربية عبر تآمره على أمنها، خاصة بعد صفقة لندن مع الموساد الإسرائيلي عام 1965، التي استلم بموجبها حافظ الأسد السلطة في سوريا مقابل التنازل عن الجولان، ثم عبر تحالفه مع إيران الخميني، وتأرجحت بعدها علاقة نظام الأسد (الأب) بمنظومة الحكم العربي ما بين شد وجذب، وكانت سياسة الاحتواء هي الأكثر رجحاناً في تعامل النظام العربي مع حكم حافظ الأسد.
مع وصول القاصر بشار الأسد للسلطة في سوريا عبر التوريث السياسي، عانى حكام العرب كثيراً من طيشه ومحاولاته لعب دور أكبر من حجمه، فوقع بكثير من الأخطاء والكوارث تسببت بقطيعة عربية، في كثير من الأحيان، خاصة بعد اتهامه باغتيال رئيس وزراء لبنان الشيخ رفيق الحريري، بالتعاون مع حزب الله، وما أعقب ذلك من ابتعاد لمعظم العواصم العربية الفاعلة عن دمشق.
مع انطلاقة الثورة السورية، حاول النظام العربي مد يد العون السياسي والمادي للأسد مقابل إصلاحات داخلية بسيطة توقف انزلاق سوريا نحو المجهول، ومنعاً لدخول سوريا بفوضى غير مضمونة النتائج، وأرسلت شحنات الأموال من عواصم خليجية لدعم إجراءات إصلاحية ومعيشية في سوريا، لكن العقلية الصلفة التي تحكم عتاولة الحكم في دمشق، ودخول إيران على خط التصلب والسيطرة على قرار بشار الأسد، حالا دون استماع حكام دمشق لنصائح قادة العرب.
مع تزايد جرائم نظام الأسد ضد الشعب السوري الثائر، خطت الجامعة العربية خطوة متقدمة بالتدخل وطرح خطة للحل في سوريا، وافق نظام الأسد دون تحفظات، في 2 نوفمبر/ تشرين الثاني، على خطة الجامعة الدول العربية التي تقضي بسحب الجيش من المدن، والإفراج عن السجناء السياسيين، وإجراء محادثات مع زعماء المعارضة خلال 15 يوماً كحد أقصى، لكن الموافقة الأسدية بقيت حبراً على ورق دون تنفيذ الأمر الذي أثار غضب الجامعة العربية، فاتخذ العرب قراراً بأغلبية ساحقة يقضي بتجميد عضويَّة سوريا في الجامعة العربية، وإعطائها مهلة ثلاثة أيام للتوقيع على بروتوكول لإرسال بعثة مراقبين عرب إلى البلاد، وهو ما أثار حفيظة النظام في دمشق، فنظم هجمات واقتحامات لسفارتي قطر والسعودية في دمشق، وقنصليتي تركيا وفرنسا في حلب واللاذقية، ومع انتهاء عمل البعثة العربية، وبرغم تقريرها شبه المنحاز كلياً لصالح النظام السوري، رفض بشار الأسد تطبيق الخطة العربية وبنود الحل في سوريا، ومعه فرضت عقوبات اقتصادية وسحب معظم السفراء العرب من دمشق ودخل النظام بقطيعة مع العرب.
القطيعة لم تكن كلية، خاصة من خلال النافذة الأمنية والاستخباراتية التي بقيت بواباتها مواربة مع أجهزة مخابرات الأسد من خلال اللواء علي مملوك الذي زار أكثر من عاصمة عربية، ونقل رسائل متبادلة مع دمشق، كانت غاية العرب منها توجيه النصائح ومحاولة إعادة بشار الأسد لجادة الصواب، لكن نظام الأسد كان قد أغلق كل طرق العودة بعد تحالفه مع نظام ملالي طهران، الذي بات صاحب القرار الأعلى والأوحد في سوريا.
اعتماد الحل العسكري والبطش بالشعب السوري المنتفض على منظومة آل الأسد الاستبدادية، كان قراراً إيرانياً، تكفل الحرس الثوري الإيراني تطبيقه عبر فيلق القدس وقائده قاسم سليماني، الذي بات الحاكم العسكري المطلق لسوريا، واستتبع ذلك فتح الأسد بوابات سوريا لإدخال مرتزقة حزب الله اللبناني والكثير من الميليشيات الشيعية التي تدور بالفلك الإيراني (زينبيون، فاطميون، النجباء… وأكثر من 65 ميليشيا أخرى)، عملت جميعها بإمرة الجنرال قاسم سليماني، وتعاونت مع نظام دمشق على شن حملة إبادة ضد كل سوري يرفض نظام الأسد ويطالب بالحرية وعلى مرأى ومسمع العرب.
مع انقضاء أكثر من ثماني سنوات على عمر مأساة السوريين على يد مرتزقة إيران وحزب الله ونظام الأسد والروس، عادت بعض الأنظمة العربية لطرح أفكار هدفت إلى تحصين منظومة الأمن العربي، وتغليب المصالح العامة للعرب على الخلافات البينية، من خلال دعم الأمن القومي العربي أمام تحديات المشروع الفارسي الذي بات يهدد مصالح ووجود الأمة العربية، مع ما يستوجبه هذا القرار العربي من تجاوز لبعض الخلافات مع نظام دمشق، عبر خطة طرحتها بعض عواصم العرب تقضي باستقطاب الأسد، وتقديم بعض المغريات المادية والاقتصادية، مقابل فك ارتباطه بالمشروع الفارسي ونظام الملالي في طهران، وتصدرت المشهد عدة دول فاعلة لقيادة تلك القاطرة، مثل الأردن ومصر والإمارات العربية، مدعومة من دول عربية لم تقطع علاقاتها بالأساس مع دمشق، وهي عمان والجزائر والعراق ولبنان، وانبرت بعض العواصم العربية لفتح الطريق، فكان الاتصال الهاتفي بين الملك الأردني عبد الله الثاني وبشار الأسد، ثم زيارة وزير الخارجية الإماراتي لدمشق، أعقبها زيارة بشار الأسد للإمارات العربية، ثم نقاشات عربية وجدالات حول إمكانية دعوة بشار الأسد لحضور القمة العربية بالجزائر، ثم فجأة وفي خضم تلك الخطوات، يخرج الملك الأردني ليرفع الصوت عالياً محذراً دمشق من أخطار تهدد بلاده، بعد سيطرة إيران وميليشياتها على معظم الجنوب السوري، ووصول تلك الميليشيات إلى الحدود الأردنية، وإلى الحدود مع الجولان السوري المحتل من قبل إسرائيل، وتتالت المواقف العربية المبتعدة عن دمشق، والهمة التي كانت تدفع بعض العواصم العربية للتطبيع مع نظام الأسد باتت تحذر، وهذا ما دعم موقف قلة من الدول العربية كانت أساساً ترفض أي تقارب مع دمشق لعلمها وقناعتها بصعوبة تغيير سياسة بشار الأسد، وصعوبة إبعاده عن أسياده في طهران.
خلال كل سنوات الثورة، ما فتئت رموز المعارضة الوطنية من تحذير العرب من خطورة وأبعاد التغول الإيراني في سوريا، وشرحت للعرب عن عمق التجذر الإيراني بمنظومة الحكم في دمشق، ومدى سيطرة إيران وحزب الله على معظم الجغرافيا السورية، وعلى القرار السياسي والعسكري للسوريين، بل سيطرة إيران على مفاصل الحكومة السورية، ومعظم مؤسسة وزارة الدفاع والأجهزة الأمنية، وبينت تلك الرموز للمسؤولين العرب أن بشار الأسد أصبح خارج دائرة القرار السوري، وأن مهمته باتت تنحصر فقط في شرعنة وجود مرتزقة إيران وحزب الله وروسيا على الأراضي السورية، وأنه باع مقدرات الشعب السوري من موانئ ومعابر وقواعد جوية وبحرية، بل باع الاقتصاد السوري وثروات سوريا للإيرانيين والروس مقابل حفاظه على كرسي السلطة في سوريا.
الموقف العربي الأخير بنظر السوريين هو عودة العرب للواقع وللمنطق الذي كان يأمله كل مواطن سوري حر، بأن نظام دمشق قد أحرق كل مراكب العودة للحضن العربي، وسد كل البوابات المؤدية للعواصم العربية، ودمج كل خياراته بخيار وحيد يقضي بالتحالف مع إيران وما يسمى “محور المقاومة”، راهناً مستقبل وإمكانيات الشعب السوري لأجندات إيران، على غرار حزب الله اللبناني، والحشد الشيعي العراقي، والحوثي اليمني، ضارباً بعرض الحائط كل مرتكزات الأمن العربي والمصالح العربية والتنسيق العربي.
فهل يمكننا القول اليوم: إن إخواننا العرب باتوا على قناعة لا تقبل الشك باستحالة فك ترابط بشار الأسد بالمشروع الفارسي وبنظام الملالي في طهران؟
أحمد رحال _ ليفانت نيوز