syria press_ أنباء سوريا
نشرت “كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية” (lse) دراسة اقتصادية للباحث الاقتصادي في الكلية زكي محشي، يتحدث فيها عن تسخير نظام أسد لميزانية الدولة لإعادة تخصيص الموارد لخدمة مصالح أمراء الحرب، وترجمة أورينت نت الدراسة التي ستنشر على قسمين، الأول يتحدث عن الاقتصاد في فترة حكم حافظ أسد في ثمانينات القرن الماضية، أما القسم الثاني يسلط الضوء على أمراء الحرب في سنوات الثورة وكيفية تسخيرهم من قبل بشار أسد.
تهدف هذه المذكرة إلى فهم كيف استطاع النظام السوري تسخير ميزانية الدولة أداة لإعادة تخصيص الموارد لخدمة مصالح أمراء الحرب والرأسماليين المحسوبين. إذ تلعب هذه الآلية أدوارًا متعددة في الاقتصاد السياسي السوري المعاصر: حيث تعد إحدى السبل التي تتيح للنخبة فرصة الوصول إلى الموارد السياسية مقابل إظهار الولاء للنظام (إضافة إلى تقديم خدمات سياسية أخرى)، وفي الوقت ذاته، ومن جانب آخر، تمثل إحدى الطرق المختلفة التي يعوض النظام عبرها العجز في ميزانيته السياسية، والتي تعرف بالرصيد المتاح للحاكم للإنفاق الاستنسابي على النخبة بهدف الإبقاء على ولائهم، تحلل هذه المذكرة التداخلات بين ميزانية الدولة والميزانية السياسية في سوريا، باعتبارها صفقة سلطوية في أثناء الصراع في سوريا، ويفترض هذا النهج أن سياسة القمع غير كافية للأنظمة الاستبدادية لفرض سيطرتها في بلدانها والحفاظ عليها، بما في ذلك النظام السوري لهذا كله، تحتاج الأنظمة الاستبدادية، بالتوازي مع اتخاذ الإجراءات القسرية، إلى المساومة مع كل من الشعب والنخب. أخيرًا، تستقصي المذكرة الأساليب التي اتخذتها النخب باطراد لتسخير الإنفاق العام لخدمة مصالحها.
شبكة معقدة من الكيانات الأمنية والعسكرية
يشمل التحليل مناطق سيطرة النظام السوري التي تشكل ما يقارب 70% من الأراضي السورية فقد طور النظام السوري، على مدى خمسين عامًا، علاقات مع شبكة معقدة من الكيانات الأمنية والعسكرية لفرض سيطرته على المؤسسات الاجتماعية والحكومية واختراقها، وتعد الفروع الأمنية المختلفة أحد تلك الكيانات، إضافة إلى كل من الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري الذين يستخدمون، أو يرغبون في استخدام، العنف والقوة الشاملة والسلطة غير المشروعة لحماية مصالحهم. كما تعمل هذه الكيانات بشكل مستقل وتتبادل المراقبة والترصد، إلا أنها تدار في النهاية من قبل شخص واحد وهو رأس النظام السوري و”رئيس الجمهورية”.
إضافة إلى أن هذه الكيانات، وعملياتها التي تشمل وضع موازنة الدولة والموافقة عليها وتنفيذها، لا تخضع للمساءلة أمام النظام القضائي ومجلس الشعب والحكومة التنفيذية، بل إنها في الواقع تسيطر على تلك المؤسسات كلها، وتجدر الإشارة هنا إلى أن النخب الأمنية والعسكرية لا تشارك في الأنشطة التجارية بشكل مباشر، بل تدخل في صفقات غير رسمية أو في شراكات مع رجال أعمال، أو تسعى نحو الاستفادة من الشبكات والمعاملات التجارية عبر صِلاتها العائلية ووساطاتها.
تركز هذه الدراسة على النخب من أباطرة المال والأعمال، وإتاحة وصولها بشكل رسمي إلى ميزانية الدولة. تضم هذه النخب الرأسماليين المقربين من النظام وأمراء الحرب الذين برزوا مؤخرًا أثناء الصراع الدائر في سوريا، لكنهم لن يتمكنوا من ضمان احتكار العقود والمشتريات المدرجة في ميزانية الدولة والتمتع بمزايا الوصول إليها على نحو تفضيلي، إلا في حال مشاركتهم للنخب السياسية في جزء كبير من الريع، لذلك فإن تحليل ديناميات كبار رجال الأعمال يعد أمرًا بالغ الأهمية لفهم الأنماط الأخرى للنخب الموجودة، بما في ذلك النخب السياسية. كما يقدم البحث الحجة على أن تحركات تلك النخب واستغلالها (وسوء استخدامها) للموارد العامة قد تحقق بإشراف وموافقة السلطات السورية بشكل فعلي.
ميزانية الدولة: أداة للمساومة السلطوية
عكست ميزانية سوريا مساومة على مستويين اثنين: بين النظام والجماهير وبين النظام والنخبة أو بين النخب ذاتها. المستوى الأول: هو نوع من العقد الاجتماعي المبرم بين السلطة والمواطنين والذي يتنازل بموجبه المواطنون عن حقوقهم السياسية وحرياتهم مقابل المصالح الاقتصادية والمنافع العامة. أما المستوى الثاني: فهو اللعبة السياسية المستمرة بين النخب، إذ تساوم الفئة الحاكمة النخب على مدى إتاحة وصولهم إلى الموارد التي سيحصلون عليها مقابل دعمهم للحاكم.
تؤكد هذه المذكرة أن لهذين النمطين من المساومات علاقة عكسية في سوريا، بمعنى أنه عند زيادة الميزانية المخصصة للمنافع والخدمات العامة، تتقلص فرص وصول النخب إلى الإنفاق الحكومي والعكس صحيح، وضمن هذا السياق، حاولت السلطة في سوريا ضبط التوازن بين هذين النمطين بحيث تحافظ على استقرارها وسيطرتها على البلاد، وتعتمد قدرة النظام السوري على ضبط هذا التوازن، بشكل كبير، على قدرته المالية، إضافة إلى الاستقرار السياسي، ومدى نجاعة استخدام أساليب الإجبار والإكراه. كما أدى كل من النقص في الموارد والتهديدات الوجودية للسلطة في سوريا إلى خفض الإنفاق على المنافع العامة بهدف خدمة مصالح النخب التي تقدم دعمًا حيويًا للسلطة، وخاصةً في أثناء النزاع المسلح، إذ تواجه هذه المعضلة الجوهرية الأنظمة الانتقالية، خصوصًا، تحت الضغوط الاقتصادية.
تسخير الموازنة لزيادة الإنفاق الأمني
كما انعكست الصفقة المبرمة بين السلطة والجماهير في ميزانية الدولة منذ الانقلاب العسكري لحزب البعث في آذار/مارس 1963، ولو أنها تغيرت، بالتأكيد بمرور الوقت، حيث سيطر حزب البعث في سنوات حكمه الأولى على المؤسسات السورية الحكومية وغير الحكومية، وأسس شعبيته على تبني فكرة القومية العربية، ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، والأهم من ذلك كله، تطبيق السياسات الاشتراكية، وبذلك شهدت الموازنة وقتها طفرة في دعم قطاعات الصحة، والتعليم، والسلع الأساسية إضافة إلى زيادة هائلة في نسبة التوظيف العام، وبالتوازي مع ذلك، فقد تضخم الإنفاق الأمني واستُخدم لتقييد الحريات الأساسية، مثل حرية التعبير.
كما أبرم حافظ الأسد، الذي حكم سوريا بين عامي 1970 و 2000، هذا النمط من الصفقات والمساومات عبر الاستثمار المكثف في السلع والخدمات العامة، ترافق مع استخدام أقسى أساليب العنف والقمع، ومع ذلك كله واجه النظام السوري في ثمانينيات القرن الماضي عدة تحديات جراء تورطه في الحرب الأهلية في لبنان (1975-1991)، والنزاع المسلح الداخلي مع جماعة الإخوان المسلمين.
علاوة على ذلك، وبعد مساندة سوريا لإيران خلال الحرب العراقية-الإيرانية بين عامي 1980-1988، أوقفت دول الخليج دعمها المالي للنظام السوري، وأجبرته هذه الصراعات كلها على استخدام المزيد من القمع، وزيادة ميزانيته الأمنية؛ كما وجد الأسد المقيد ماليًا، صعوبة بالغة في الحفاظ على دعم السلع الأساسية آنذاك، ومن ثم رفعت السلطة السورية أسعار السلع والخدمات المدعومة، كما زادت الضرائب والرسوم غير المباشرة؛ ما أدى إلى إعادة توزيع الثروة من الطبقات العاملة والمتوسطة إلى الشبكات الاقتصادية النافذة، وقدّر عارف دليلة (1999) أن نسبة الزيادة السنوية في الضريبة غير المباشرة وانخفاض الدعم كانت أقل 1% من ميزانية الدولة في عام 1986، ثم قفزت إلى 26% في عام 1997.
بعد أن انتقلت السلطة إلى بشار الأسد عام 2000، واصلت الموازنة العامة تحولها نحو تقليص الدعم واتباع السياسات الاقتصادية الأكثر توجهًا نحو السوق، ما أدى إلى تفاقم رأسمالية المحسوبين، مع ما صاحبها من زيادة في الفرص المتاحة لوصول النخب إلى موارد الدولة وأصولها، واستشراء الفساد على المستويات الدنيا بلا هوادة. تقلص دور الدولة في قطاعات الصحة، والتعليم، والسلع الأساسية، دون إتاحة مساحة أكبر للسوريين للتعبير عن أفكارهم وآرائهم بحرية وفقدت السلطة في سوريا، أثناء سنوات النزاع، الكثير من قدرتها على استخدام موارد الدولة أداة للمساومة مع المواطنين السوريين. والذي كان إلى حد كبير، نتيجة نقص الموارد المالية التي تسهم في الحفاظ على المنافع العامة، واعتماد النظام بشكل كامل على الإجراءات القسرية بهدف الإبقاء على سلطته.
نهب قانوني بموافقة السلطات السورية
بناءً على ذلك كله، تغير النمط الأول من المساومة السلطوية في سوريا بشكل جذري، إذ تقلص الدعم بشكل كبير وارتفعت الرسوم والضرائب غير المباشرة دون أي تحسن في الحريات السياسية والحقوق العامة.
في الواقع تقلص الدعم من مبلغ يقارب الخمسة مليارات دولار أمريكي في عام 2012 إلى أقل من مئتي مليون دولار في عام 2020 2. كما تفاقم الوضع بسبب النزاع القائم في البلاد ما أدى إلى تحول هذا النمط من المساومات إلى ممارسات استغلالية وقمعية مستحكمة من قبل السلطات السورية. وفي الوقت ذاته، استفادت النخب من الإنفاق العام. حيث تمكنت من التأثير بشكل متزايد في صياغة وتطبيق السياسات المالية؛ كما استخدمت الإنفاق التنموي في موازنات الدولة لخدمة مصالحها.
اتخذ وصول النخب إلى موازنات الدولة في سوريا شكلين اثنين (قد يتداخلان في الممارسة).
أولًا: الوصول إلى ميزانية الدولة عبر علاقات الفساد مع مسؤولي الدولة ورجال الأعمال الذين يقدمون الرشاوى للوصول إلى عقود حكومية عبر عروض لا تلبي المواصفات المطلوبة والشروط المالية. يشمل ذلك مبالغ مالية صغيرة، نسبيًا، وهو غير مشروع بموجب القانون.
ثانياً: الوصول المشروع لنخب رجال الأعمال وأباطرة المال إلى الموارد العامة –أي النهب القانوني لتلك موارد، الذي وافقت عليه السلطات السورية بل وسهلته مقابل ضمان الحصول على دعم النخب.
لانا الإمام _ أورينت