لم تعد القبيلة والعشيرة في المجتمعات العربية معطى تاريخيا ثابتا، ولا وحدات متجانسة في سلوكها الاجتماعي وهوياتها السياسية، بعدما انفصلت البنى الاجتماعية ـ الاقتصادية ـ السياسية فيها، إما بفعل التحديث أو بفعل التغيرات الديمغرافية، نتيجة الهجرة الكبيرة من الريف إلى المدينة، والتي بدأت في سبعينيات القرن الماضي.
لم يبق من العشائر سوى زعامات وجاهية شكّلت، في مرحلة “البعث”، أدوارا وظيفية في خدمة السلطة، لا بسبب قوتها، بل لزجّها في صراعاتٍ داخليةٍ خدمة للنظام. ومع اندلاع الثورة، سرعان ما ظهر الضعف البنيوي في العشائر، من خلال انشقاقٍ جرى على مستويين: العشائر بين من آثر الوقوف إلى جانب النظام ومن قرّر الوقوف إلى جانب الثورة. العشيرة نفسها، حيث جرت فيها انشقاقات بين الجيل القديم الذي فضل بقاء الوضع على ما هو عليه والجيل الجديد الذي آمن بالثورة. وكان من نتيجة ذلك أن ظهرت هشاشة العشيرة، بنية ومنظومة متماسكة، فأهملها النظام بقدر ما أهملتها المعارضتان، السياسية والعسكرية، بسبب بعدها الجغرافي، ثم بسبب هيمنة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على مناطقهم وسيطرة “الوحدات الكردية” بعدها.
يلاحظ من الاصطفافات العشائرية أنها تجري وفق الحسابات الضيقة وظروف الصراع، فمثلا في محافظة الرّقة ذات الهيمنة الكردية، تحالفت عشيرتا العفادلة والولدة مع “الإدارة الذاتية”، بعدما كانت العفادلة تحتضن الجيش الحر، أما العشائر الأخرى مثل المشهور، جيس، الحليسات، بوحميد، فتتراوح بين الميل إلى الأكراد والميل إلى النظام. وكذلك الأمر مع عشائر العكيدات والبكارة والغير التي تحالفت في ديرالزور مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، بينما أبقت على قنوات اتصال مع النظام. وينطبق الأمر ذاته على الحسكة، حيث تحالفت عشائر طي، الجبور، حرب مع “الإدارة” الذاتية، في وقت لم تقطع علاقاتها مع النظام السوري. وفي المقابل، اتجهت عشائر أخرى إلى التحالف مع المعارضة وتركيا في المناطق التي تسيطر عليها الأخيرة، مثل عشائر بني خالد، النعيم وغيرها.
وقد أخذ الاهتمام المحلي والإقليمي والدولي يزداد تجاه العشائر بعد انتهاء المعارك الكبرى، وبقاء مناطق التنازع والنفوذ (ديرالزور، الحسكة، الرّقة) قائمة. ولمّا كان من الصعب على أي طرفٍ من الأطراف المتنازعة تغيير الواقع الميداني بقوة السلاح، بدأت هذه الأطراف تولي اهتمامها للعشائر، على أمل تشكيل قوة اجتماعية عسكرية قادرة على رفع تكلفة وجود الطرف الثاني.
وازداد الاهتمام بالعشائر بعد تصريحات الرئيس الأميركي، ترامب، بالانسحاب من سورية، ثم سحب الولايات المتحدة قواتها من المنطقة الواقعة بين تل أبيض ورأس العين على الحدود التركية. وعقد النظام السوري اجتماعين مع العشائر؛ الأول في يناير/كانون الثاني من العام الماضي في منطقة أثريا في ريف الرقة، والثاني في يوليو/تموز العام الماضي، داخل قاعدة حميميم العسكرية، في حين عُقد اجتماع نهاية ديسمبر/كانون الأول عام 2017 في إسطنبول سمّي “مؤتمر العشائر والقبائل السورية”، ليعقبه اجتماع آخر بعد عام تحت رعاية تركية لمجموعة كبيرة من زعماء العشائر العربية والتركمانية والكردية والسريانية في قرية سجو قرب مدينة أعزاز الحدودية في ريف حلب الشمالي، وانتهى الاجتماع بتشكيل “المجلس الأعلى للقبائل والعشائر السورية” و”مجلس الأعيان”.
وقد شكّل الاتفاق الأميركي مع “قوات سوريا الديمقراطية” بشأن النفط، ثم اغتيال مطشر الهفل، أحد أبرز شيوخ عشيرة العكيدات (الحسون، الشحيل، الهفل، الشويط، البورحمة، البوحسن، القرعان، الشعيطات، الدميم، البو الخابور، البوليل) نقطة تأسيسية، ستكون لها تبعات مستقبلية على دور العشائر في المنطقة الشمالية الشرقية من سورية. وأولى نتائج هذا الاغتيال إصدار العكيدات بيانا أعلنت فيه عن تشكيل مجلسين: سياسي، هدفه بناء حضور سياسي للعشيرة، يكون مقدمة لمجلس سياسي أوسع يضم عشائر أخرى. عسكري (جيش العكيدات) يترأسه أسد الهفل، هدفه تحقيق التحرير الشامل للأراضي السورية بالتنسيق مع “الجيش السوري” والقضاء على “الإرهاب”. وليست أهمية هذا التشكيل العسكري في قوته وقدرته على إحداث تغيير في خريطة القوى العسكرية في هذه المنطقة، وإنما في أنه قد يشكل حجر أساس لتحالف عشائري أوسع مع النظام السوري، بدأت ملامحه الأولية بالظهور مع دعوة قبيلة الشرابيين أبناءها والقبائل كافة إلى “مقاطعة “قسد” والتوحد لمقاومة الأميركيين القتلة وأذنابهم في سورية”، وبيان عشيرة البوعاصي في ريف القامشلي الذي يؤكد وقوف العشيرة إلى جانب العكيدات والبكارة.
يفعل الإقصاء السياسي والاقتصادي والاجتماعي للعشائر فعله هنا، خصوصا العشائر التي حدثت فيها تغيرات ضمن بنيتها مع جهود النظام وإيران و”قسد”، كل لأهدافه في تغيير الهوية العشائرية والعلاقات الوشائجية في ما بينها من جهة، وسماح الولايات المتحدة للمكوّن الكردي بأن يعلو على العشائر العربية السنية، ورفض دمجها في مشروع “الإدارة الذاتية” الكردية.
ولكن واقع العشائر اليوم في سورية جزء من الواقع السوري في مجمله، حيث المصالح الضيقة تغلبت على المصالح الواسعة، فقد أعلن شيوخ عشائر في محافظة الرقة رفضهم القاطع سياسة النظام السوري والقوات الموالية لها، وإنشاء مجلسين، سياسي وعسكري، من عشيرة العكيدات، في ما بدا أن جدلية الريف والمدينة لعبت دورها هنا عندما هاجم رئيس “مجلس دير الزور العسكري”، أحمد أبو خولة، (من عشيرة البكيّر إحدى عشائر قبيلة العكيدات) العشائر في الريف، وقلل من قدرتها على حكم مناطقها: “الآن الشوايا تريد أن تدير دولة”.
تصريحات سرعان ما استتبعت باجتماع عشائري نظمه قائد “مجلس دير الزور العسكري”، أحمد أبو خولة، بحضور أبناء من المنطقة الموجودين ضمن المجالس المحلية والأهلية، في مؤشرٍ واضحٍ على دور أميركي. وخرج الاجتماع ببيان مضاد لبيان العكيدات، يطالب فيه التحالف الدولي بإخراج القوات الإيرانية والروسية والنظام السوري من القرى التي تسيطر عليها في ريف دير الزور. وتكشف هذه المواقف المتغيرة للعشائر مدى اختلاف المصالح في ما بينها، ومدى تأثير القوى الخارجية في مواقفها.
وكان لغياب الفرص السياسية أولا، ولتردّي الوضع الاقتصادي ثانيا، ولتهديدات متغيرة ثالثا، الدور الرئيسي في تحديد مواقف العشائر، وجعلها تنقسم بين تحالفات محلية وأخرى إقليمية: عشائر تحالفت مع المعارضة وتركيا، وعشائر تحالفت مع النظام وإيران، وأخرى تحالف مع “قسد” والأميركيين.
حسين عبد العزيز_ العربي الجديد