تُبنى استراتيجية الدول عادة وفقاً لمصالحها، وتتغير تلك الاستراتيجيات مع تغير الأهداف وتبعاً للظروف التي تتعرض لها الدولة، والأهداف الاستراتيجية التي وضعتها روسيا عندما اتخذت قرارها بالتدخل العسكري في سوريا، كانت وفقاً لحزمة مصالح روسية، منها الوصول للمياه الدافئة على شاطى المتوسط، واختراق الدرع الصاروخي لحلف الناتو، والتواجد في قواعد تستطيع من خلالها أن تشكل تهديداً لجنوب أوروبا إذا ما دعت الحاجة إليه.
إضافة للتحكم (أو المشاركة) في حقول الغاز المكتشفة على السواحل الشرقية للبحر المتوسط، ولمنع تمرير خطوط أنابيب غاز جديدة من قطر والخليج العربي يرفع بسببها السيف الروسي المسلّط على رقاب الأوروبيين، لإبقاء موسكو كمصدر وحيد للطاقة والاستفراد بتلك المزايا، وفي الأهداف الثانوية وفائض القوة تحافظ موسكو من خلال وجودها العسكري في سوريا على نظام الأسد، وتحقق كل تلك الأهداف مجتمعة من خلال جواز سفر يحمل طابع “الحرب على الإرهاب”.
لكن ورطة الحرب الروسية في أوكرانيا، وارتداداتها الكارثية الناجمة عن الأداء الفاشل للجيش الروسي، وطريقة تعاطيها مع تلك الحرب، وهي التي تصنف نفسها كدولة عظمى تنافس لإزاحة الولايات المتحدة الأمريكية عن مقعدها الذي يدير عالماً أحادي القطب، بينما طموح القيصر “بوتين” يهدف لتحويل النفوذ على الخارطة الدولية لعالم ثنائي أو ثلاثي الأقطاب إن أمكن.
حساب الحقل لم يتطابق مع حسابات البيدر، وإعلان الحرب التي سماها بوتين “عملية عسكرية خاصة”، كان مقدراً لها أن تنتهي خلال ساعات أو أيام قليلة وفق تقديرات وخطط وزارة الدفاع الروسية، بناء على التقارير العسكرية التي رفعها جنرالات بوتين وقادة أجهزة استخباراته، والتي تبين أن معظمها تقارير وهمية وكاذبة، وأن مليارات الروبلات الروسية التي رصدت لأعمال صيانة السلاح والمشاريع القتالية والتعبوية، وكل أموال تحسين أداء منظومات الاتصال والنقل، إضافة لأموال التعيينات وتخزين طعام الجنود، كلها سرقت وبددت وذهبت لجيوب كبار الجنرالات في الجيش الروسي، وصرفت على حفلات الفودكا وسواها، وتجلّت حقيقة هذا الجيش العرمرم خلال الأيام الأولى للحرب في أوكرانيا، ولولا زخم استخدام الروس للقاذفات ومنظومات صواريخ أرض – أرض، لكان بوتين في ورطة وإهانة غير متوقعة حتى من أشد أعدائه.
انقلاب موازين القوى في جبهات أوكرانيا، والأهداف التي وضعها الرئيس بوتين كحلّ لوقف الحرب قبل بدئها فشلت، ودخلت معها روسيا بحرب استنزاف غير محسوبة وطويلة الأمد تهدّد بخسائر اقتصادية وبشرية وانعكاسات سلبية جداً على المجتمع الروسي، خاصة مع ترياق الدعم العسكري الغربي المتزايد للجيش الأوكراني الذي فاجأ الغرب قبل بوتين بقدرته على الصمود والثبات، رغم الفارق الشاسع بين قدراته العسكرية وقدرات عدوه الروسي.
الواقع العسكري اللامرضي الذي آلت إليه معظم جبهات الحرب، وبرغم الإنجازات التي حققها الانفصاليون بدعم من الجيش الروسي في جبهات الجنوب الأوكراني في إقليم دونباس ومقاطعة خيرسون، لم يكن كافياً لتحقيق السقف المرتفع لأهداف بوتين، والقراءة العسكرية المتأنية والواعية لمستقبل تلك الحرب، كانت تعطي مؤشرات ودلالات على صعوبة الحسم الروسي الفوري أو تأخره على أحسن تقدير، وهذا ينذر الرئيس بوتين بحرب استنزاف طويلة ومفتوحة على الأرض الأوكرانية لا تصب في مصلحة الروس، خاصة أن حرب استنزاف الروس هي مطلب غربي يحقق الأمان لمعظم دول حلف الناتو على مبدأ: اشغل عدوك كي لا يشتغل بك.
تغيير واقع ترهل وسوء أداء الجيش الروسي في الحرب على أوكرانيا تم عبر قرارات عسكرية مستعجلة اتخذها الرئيس “بوتين”، ووزير دفاعه “سيرغي شويغو”، ورئيس أركانه “فاليري غيراسيموف”، وتضمنت تكليف الجنرال “ألكسندر دفورنيكوف” بعد عزل ومقتل معظم قادة الصف الأول بالجيش الروسي، والجنرال “فوردينكوف” طالب القيادة الروسية باصطحاب ضباط طاقم عملياته من قاعدة حميميم على غرار ما كان يفعله القائد السوفييتي الجنرال جوركي جوكوف، بطل الحرب العالمية الثانية، الذي أرهق الألمان وهزم هتلر، ورافق سحب الضباط استدعاء موسكو لكثير من وحداتها وطائراتها وأطقمها العاملة في سوريا إلى الجبهات الأوكرانية، كوحدات عسكرية تمتلك جاهزية قتالية عالية، وتمتلك خبرات قتالية حازت عليها في حربها ضد الثوار في سوريا، وحتى شركة مرتزقة “فاغنر” التي يترأسها طباخ بوتين السابق “يفغيني بريغوجين” تم سحب معظمها لأطراف العاصمة الأوكرانية “كييف” ومدينة “خاركييف”.
انسحاب الروس من بعض مواقعهم في محافظات دير الزور وحلب ودمشق وأطراف حماة، دفع باللواء علي مملوك، يليه بشار الأسد، للقيام بزيارتين سريعتين لطهران (عاصمة قرار النظام السوري) لمعرفة الخطوات التي تعوض انسحاب الروس الجزئي أو الكلي، وكان قرار طهران واضحاً بملء فراغ الانسحاب الروسي واعتباره هدية مجانية من بوتين، مع العمل على شحن قوافل إضافية من السلاح والعتاد وزيادة أعمال التطويع والتشييع في سوريا، إضافة لتشكيل (12) مقر قيادة جديد في أرياف حمص وحماة والبادية السورية بالتشارك مع حليفها الأول، اللواء ماهر الأسد، كقائد للفرقة الرابعة في جيش الأسد، والتي تدين بالولاء الخالص للحرس الثوري الإيراني.
نقل إيران لكتائب “الإمام” من مواقع انتشارها السابقة في الميادين والبوكمال والبادية السورية على عجل للجنوب السوري، وفتح باب التطوع من قبل الفرقة الرابعة لاستقطاب شباب جدد، حتى من المتخلفين عسكرياً عن جيش الأسد ومن أصحاب الملفات الأمنية، كانت خطوات سريعة اتخذها إسماعيل قاآني لمحاولة السيطرة على جبهة الجولان وأرياف القنيطرة، كخطوة لطالما بحثت عنها طهران لفتح جبهة اشتباك جديدة لما يسمى “محور المقاومة” مع إسرائيل على غرار الجنوب اللبناني، لزيادة الضغط على تل أبيب اتجاه ملفات عالقة مع طهران، وأهمها الملف النووي، والوجود الإيراني خارج الحدود.
ترافق انتشار ميليشيات إيران في الجنوب السوري مع السيطرة على اللواء الجوي 64 “مطار بلي” في ريف السويداء، واللواء 55 مدفعية وصواريخ شمال دمشق (منطقة حفير)، واللواء 47 مدرعات في ريف حماة منطقة جبل زين العابدين، بالإضافة إلى سيطرة ميليشيات إيران على مطارات (كويريس، النيرب، تدمر، تي فور)، وإذا ما أضيفت تلك المواقع لما تسيطر عليه إيران في دمشق وحلب وأرياف إدلب وكامل القلمون الشرقي والغربي مع كامل الحدود السورية – اللبنانية، تكون إيران قد سيطرت على معظم الجغرافيا السورية.
النبرة العالية للملك الأردني، عبد الله الثاني، لم تكن ناجمة عن فراغ وإن كانت متأخرة، وحديثه عن مخاطر ملء الفراغ الروسي من قبل ميليشيات إيران وتجار ومافيات مخدرات حزب الله في الجنوب غير المحبذ من عاصمته عمان، لأن الوجود الإيراني في تلك البقعة يهدد الأمن القومي للأردن، ورسالته كانت موجهة أساساً لتل أبيب وواشنطن كي تتحركان على وجه السرعة لوقف هذا التدهور وما سيعقبه من مخاطر أمنية في المنطقة، لأن الوجود الإيراني سيؤدي إلى مد شيعي وتصعيد عسكري إسرائيلي، بعد أن تراجعت موسكو عن تعهداتها لتل أبيب وعمان في عام 2018، والتي كانت تتمحور حول إبعاد إيران عن حدود الأردن والجولان السوري المحتل، والملك الأردني عبد الله يدرك تماماً أن شظايا أي اشتباكات عسكرية بين الجيش الإسرائيلي وميليشيات إيران في الجنوب السوري ستتطاير لتصل الأردن من خلال 375 كم كحدود مشتركة بين الأردن وسوريا.
في لقاء عقد في إسطنبول مع المبعوث الأممي السابق جويل ريبورن، قال فيه: (إن صفقة 2018 مع الروس وما حصل بالجنوب السوري كان خطأً كارثياً على السياسة الأمريكية، والكارثة الأكبر أن واشنطن يصعب عليها كثيراً إصلاح هذا الخطأ).
تلك المواقف تترك الأبواب مشرّعة لأدوات إسرائيل الجوية والصاروخية لتصحيح هذا الخطأ، وتكتيك “جز العشب” المعتمد سابقاً من قبل إسرائيل لضرب فائض القوة الإيرانية في سوريا قد لا يعود مجدياً، لأن الخطوط الحمراء التي كانت تراعيها تل أبيب لم تعد موجودة بعد الانسحاب الجزئي الروسي، وقواعد الاشتباك التي سبق وأقرّتها موسكو مع تل أبيب في سوريا لم تعد قائمة، ومخاوف طائرات وصواريخ إسرائيل من قصف مواقع يرفع فيها العلم الروسي، أو تتواجد فيها وحدات روسية، أصبحت نادرة الوجود في شمال وشرق وجنوب ووسط سوريا، وبالتالي فقد أصبحت القوى الجوية الإسرائيلية تمتلك كامل مفاتيح مواجهة إيران في سوريا، وبنك الأهداف الإسرائيلي يحوي الكثير من معلومات وإحداثيات جمعتها منظومات استطلاعها الفضائية والجوية والأرضية، إضافة لشبكة واسعة من العملاء تخترق من خلالها منظومة قيادة إيران وحزب الله واستخبارات الأسد، وإسرائيل التي اغتالت العقيد حسن صياد خدايي في قلب طهران (المسؤول عن نقل تقنية صناعة الصواريخ إلى حزب الله في لبنان)، لن تتغاضى عن مخاطر وجود الحرس الثوري الإيراني وميليشياته وكل الأعتدة والمنظومات التي بات يمتلكها على الساحة السورية.
الانسحاب الروسي من بعض المواقع في سوريا اعتبرته طهران هدية مجانية، لكن الأسابيع والأشهر القادمة ستثبت لقادة الحرس الثوري الإيراني وأدواتهم في قصر المهاجرين والضاحية الجنوبية، أن هدية بوتين كانت مسمومة، وسمها القاتل سيمزق أحشاء إسماعيل قاآني وحسن نصر الله وحليفهما القاصر في دمشق.
أحمد رحال _ ليفانت