خروج نساء دمشق الواسع إلى سوق العمل والحياة العامة، بعد هجرة كثير من الشباب نتيجة الحرب السورية، دفع البعض لتسمية العاصمة السورية بـ”مدينة النساء”. إذ بات من الملحوظ أن الأسواق والأماكن العامة تزدحم بالفتيات والسيدات، ويغلب عليها الطابع الأنثوي. ومع تفاقم صعوبات الحياة المعيشية للغالبية العظمى من سكان دمشق، بسبب الغلاء الفاحش وتدهور قيمة الرواتب الشهرية. لم يبق أمام نساء دمشق سوى محاولة إيجاد فرص عمل، حتى لو كانت تتطلب جهداً كبيراً، ولا تعتبر مهناً مألوفة للنساء في سوريا.
نساء دمشق يعملن في مهن الرجال
«العمل لا يعيب المرأة طالما أنها تحافظ على نفسها». هذا ما تقوله “سعاد”، البالغة من العمر اثنين وأربعين عاماً، والعاملة في غسل السيارات في إحدى أحياء الطبقات الغنية في دمشق. لتعيل أطفالها الثلاثة، بعد وفاة زوجها في السنة الثانية من الحرب.
ورغم ظهور علامات التعب على وجهها تواصل “سعاد” بنشاط تلبية طلبات الزبائن، الذين باتوا يتصلون بها مسبقاً لتنظيف سياراتهم، مقابل أجر مادي تراه مقبولاً. «أولادي صغار، ولم يكن أمامي خيار سوى العمل بهذا المجال، الذي كان سابقاً حكراً على الرجال، وإلا كنا سنتشرّد ونجوع». تقول السيدة الدمشقية لـ«الحل نت».
بينما تتحدث “راميا” لموقع «الحل نت»، وهي فتاة من العاصمة السورية، عن نساء دمشق من جارتها، اللواتي يعملن في مجال حمل أكياس الرز والسكر للمؤسسات التجارية. رغم ثقل أوزانها. مؤكدة أنها «تعرف فتيات، بين عمر أربعة عشر وعشرين عاماً، يعملن لمدة عشر ساعات متواصلة في حمل الأكياس، رغم ضعف أجسادهن. وذلك لضرورات تأمين أساسيات الحياة لأسرهن، التي فقدت المعيل».
وتضيف “راميا”: «المشكلة الأخرى أن هاته الفتيات، وغيرهن من نساء دمشق العاملات في مهن شاقة، يتعرّضن للسخرية والتنمّر، من قبل بعض الأشخاص في الطرقات. مما دفعهن لتغطية وجوههن. لتفادي أي موقف محرج». لافتةً أن «بعض النساء يعملن أيضاً في ترميم أرصفة الطرقات. بأجر شهري لا يزيد عن ثلاثين ألف ليرة سورية. وهو مبلغ زهيد قياساً لارتفاع الأسعار، وانهيار قيمة العملة المحلية».
السيدة “رويدا”، البالغة من العمر خمسين عاماً، والمنحدرة من بلدة “ببيلا”، واحدة من نساء دمشق اللواتي بدأن العمل في مجالات عمل الرجال سابقاً. فهي تقود حافلة نقل داخلي، لتعيل ابنتها التي تدرس في الجامعة. معتبرةً، في إفادتها لـ«الحل نت»، عملها هذا «نضالاً. كي لا تمدّ يدها لأحد. لا سيما أن زوجها مريضٌ بالسكري، ولا يقوى على العمل. كما أن العائلة لا تنال أية مساعدة من المنظمات الإنسانية، إلا بعض الأدوية بشكل متقطّع».
هل ما يزال عمل نساء دمشق مداناً؟
المجتمعات المحلية في سوريا، برغم التغيّر الكبير في ظروفها، ما تزال تنتقد عمل النساء في مهام تُعتبر ذكورية. وعلى الرغم من أن العاصمة السورية من أكثر مدن البلاد انفتاحاً وتنوعاً، إلا أن عمل نساء دمشق في مجالات جديدة على المرأة ما يزال يعتبر أمراً شاذاً وغير مفهوم.
الأخصائي النفسي “د.معاوية الأحمد” يرى أن «هناك تناقضاً في نظرة المجتمع للنساء. فهناك رجال يدفعون زوجاتهم للعمل لتأمين مستلزمات الحياة، وفي الوقت نفسه، ينتقدون عملهن. ويعاملونهن بشكل سيء، وهو ما تتعرّض له كثير من نساء دمشق. ولكن لا يمكن تعميم هذا بالطبع. فهناك كثير من الذكور الذين يتقبّلون عمل النساء في كل المجالات، ويعتبرونه مصدر كرامة لهن».
ويشدد “الأحمد” على أنه «لا توجد مساواة كاملة بين النساء والرجال حتى في الدول الغربية. فرغم انفتاح كل المجالات لعمل النساء هناك، يعتبر كثير من الرجال أن دور المرأة ووجودها في سوق العمل يسلبهم وظائفهم. وأن النساء بتن منافسات للرجال على مصادر رزقهم. في حالة نساء دمشق الأمر يختلف. فالسيدات يقمن بسد فجوة خلّفتها هجرة الرجال. وهو ما يؤدي بالتدريج إلى تغيّر في الأدوار الجندرية التقليدية».
تغيّر الأدوار الجندرية
ويضرب “الأحمد” مثالاً عن تغيّر الأدوار التقليدية بالقول: «بعض المنظمات في الشمال السوري توظّف نساءً مطلّقات أو أرامل، لأجل مساعدتهن. وهذا ما لا يتقبّله كثير من الرجال، لأنهم يرون أنفسهم الأجدر بالوظائف. فمن الناحية النفسية يخاف بعض الرجال من أن يؤدي عمل نسائهم إلى اقصائهم عن دورهم التقليدي المهيمن في العائلة والمجتمع. إلا أن هذه المخاوف لا يمكنها أن تغيّر الظروف الموضوعية للبلاد، التي تجعل عمل النساء ضرورة. وهكذا فسواء تحدثنا عن تمكين بعض المنظمات للنساء في الشمال السوري، أو عمل نساء دمشق، الذي فرضته الضرورات، فالنتيجة أن الأدوار الجندرية التقليدية لم تعد فعّالة. وسينشأ نمط جديد من النظر للجنسين وسلوكهما في المجال العام والخاص».
وتشير بعض الإحصائيات الدولية إلى أن نحو 80% من سكان سوريا يعيشون تحت خط الفقر. وفيما يخص وضع المرأة في سوريا من حيث العمل، فقد ارتفعت نسبة عمالة النساء السوريات إلى أكثر من 87%، نتيجة الظروف التي فرضتها الحرب، وتوجه قطاعات كثيرة للاستعانة بالعاملات، لسد حاجتها من الأيدي العاملة. وربما كان هذا الدور الكبير للنساء السوريات عموماً، ومنهن نساء دمشق على وجه الخصوص، أحد أهم أسباب الانطباع السائد بأن دمشق باتت “مدينة النساء”. فهل تنال نساء سوريا حقوقاً اجتماعية متساوية مع دورهن الاقتصادي الكبير؟
رهام بحري _ الحل نت