وسط مخيم “المدينة المنورة” شمال محافظة إدلب تعلو همَم النساء في العمل لتجاوز أوجاع الحياة. وبين آلام ابنتيها والفقر تنهمك وضحة عبيدا “أم إسماعيل” في صنع خضار وتحضير مؤونة طعام تحصّل منها جزءاً من مصاريف عائلتها التي أثقلها الارتفاع القياسي في الأسعار، وشبه انعدام المساعدات الإنسانية.
تروي “أم إسماعيل”، وهي أم لستة أولاد يتوزعون بين 3 صبيان و3 بنات، لـ”العربي الجديد” أن ابنتها البكر إسراء (20 عاماً) التي تدرس الجغرافيا في الجامعة حالياً مريضة بسرطان الرحم، أما ابنتها الأصغر آلاء (18 عاماً) فمريضة بالسكري ما أصابها بضعف في النظر، وكلتاهما في حاجة إلى أدوية. وتوضح: “نتج مرض ابنتي من تعرضهما خلال طفولتهما لحالات رعب من قصف الطائرات الحربية مدينة كفرنبل جنوب محافظة إدلب، والذي دفعنا في نيسان/ إبريل 2019 إلى النزوح إلى مخيم المدينة المنورة المخصص للحالات المرضية ضمن مخيم بلدة باريشا شمال المحافظة”.
وتشير إلى أن زوجها لا يستطيع أحياناً ضمان فرصة عمل مقابل أجر يومي لا يتجاوز 25 ليرة تركية (1.84 دولار)، خصوصاً خلال أيام هطول الأمطار، ما اضطرها إلى العمل في صنع المؤونة المنزلية لحساب محل لبيع الخضار، وذلك بعد نحو شهرين من انتقال العائلة إلى المخيم. وتوضح أن صاحب المحل عرض إعطاءها خضاراً وفاكهة كي تحضّرها وتعيدها إليه جاهزة عبر وضعها في أوعية بلاستيكية أو أكياس مخصصة للطعام المجفف، ما منحها وسيلة لإعالة عائلتها.
وتشرح أن آلية عملها تعتمد على طلبات محدّدة من الزبائن، وعلى مواسم أنواع خضار. “ففي فصل الصيف اهتم بتجفيف الفليفلة والبندورة والبامية والملوخية، وصنع أنواع المخللات ومربيات السكر، كما أحفر الكوسا والباذنجان لإعداد “المحشي”، وأعدّ معجنات حلوة ومالحة مثل المعمول والبسكويت عندما يُطلب مني ذلك”.
وتتمنّى “أم إسماعيل” أن يصبح عملها ضمن مشروع خاص بها يحتاج إلى رأس مال لشراء المواد والآليات اللازمة. وتطمح لتشغيل نساء أخريات معها وتوسيع المشروع الصغير كي ينتفع منه كُثر، خصوصاً أن ظروف الحياة وغلاء المعيشة تضطر النساء إلى العمل لإعالة العائلة في مخيمات النزوح التي تفتقر إلى معظم مقوّمات الحياة”.
من جهتها، أبهرت ختام الخطيب (36 عاماً) التي نزحت قبل نحو سنتين إلى مخيم “المدينة المنورة” بعد تهجيرها مع زوجها وأولادها الستة من مدينة كفرنبل، السكان بإبداعها في صنع الملابس. وتقول لـ”العربي الجديد”: “بدأت عملي عبر شراء ثياب مستعملة من البالة، وقمتُ بإعادة تدويرها لتبدو جديدة. وعندما وجدت أن النتيجة جيّدة، صنعت كمية أكبر، وعرضت القطع للبيع في معرض أقيم في المخيم، من دون أن تتلقى أي مساعدة للتواجد فيه. وشجعني إقبال أهالي المخيم على شراء قطعي المعروضة على إقامة معرض ثانٍ، في حين أستعد لمعرض ثالث حالياً”.
وتتحدث الخطيب عن أن المعرض سمح لها بأن تساند زوجها في تأمين مصاريف البيت، ومنحها فرصة مساعدة أهالي المخيم في شراء ملابس، “لأن معظمهم فقراء والثياب الجديدة غالية جداً”. وتلفت إلى أنها تعمل عبر ماكينة درزة يدوية، واستعارت من أختها ماكينة حبكة كهربائية. وتلفت إلى مواجهتها صعوبات تأمين ألواح الطاقة الشمسية والبطاريات صغيرة الحجم الكهرباء لعمل ثلاث أو أربع قطع ثياب يومياً فقط، مع حصره بالفترة الزمنية الممتدة من الظهيرة إلى طلوع الشمس”.
لى مسافة 25 كيلومتراً من غربي مدينة جرابلس شرق حلب، تتجمع شوادر مهجري حي الوعر في محافظة حمص ضمن مخيم قرية زوغرة الذي يفتقر سكانه إلى دعم إغاثي، ويواجهون صعوبات كبيرة في تأمين المياه ومعالجة مشاكل الصرف الصحي، ما اضطر الخمسينية رسمية العلي “أم سالم” إلى العمل في خياطة كل أنواع الثياب باستخدام ماكينة درزة يدوية.
وهي تقول لـ”العربي الجديد”: “أحاول المساعدة في تأمين مصاريف عائلتي التي تضم خمس بنات بينهن ثلاث متزوجات وابن واحد متزوج، وكذلك احتياجاتي من أدوية أمراض السكري والضغط ونقص التروية في القلب التي أعاني منها. وقد أثقلتني الديون بسبب متطلبات الحياة الكثيرة مع غلاء المعيشة الذي يُعاني منه معظم السوريين. وأتطلع حالياً إلى تسهيل عملي وتحسينه عبر شراء ماكينة كهربائية”.
وتخبر المديرة التنفيذية في منظمة “مزايا” التي تعنى بشؤون النساء وتتخذ من مدينة سلقين شمال إدلب مقراً، إيثار العلام، “العربي الجديد”، أنّ “لا إحصاءات دقيقة لعدد النساء اللواتي يعملن في المخيمات، لكننا نقدّر استناداً إلى مشاهداتنا الميدانية أن عددهن يناهز الألف”.
وتشير إلى معاناة النساء العاملات بالدرجة الأولى من فقدان الخصوصية بسبب قرب الخيم من بعضها البعض وضيق المكان، سواء في المخيمات المنظمة التي تتفاوت طبيعة الخدمات المقدمة فيها، أو تلك العشوائية التي تشهد صعوبات كبيرة أهمها عدم وجود أدنى مستلزمات الصرف الصحي والماء والكهرباء والمساعدات الغذائية. وهي تمتد على مساحة الشمال السوري بعدما أنشئت تحت ضغط المتطلبات الملحة والعاجلة للنزوح، لذا يعتبر وضعها أكثر سوءاً من المخيمات المنظمة، لا سيما في فصل الشتاء”.
تضيف: “انتشار البطالة في شكل كبير والغلاء المعيشي المتزايد يدفعان المرأة إلى البحث عن عمل لتأمين المصاريف العائلية سواء كانت هي المعيل الرئيسي في حال فقدان الزوج، أو إذا تواجد الزوج من دون أن يستطيع جلب كل المصاريف بسبب الوضع المعيشي السيئ أو قلّة فرص العمل. وتحاول بعض النساء إطلاق مشاريع صغيرة داخل الخيم للمساهمة بأي مورد مادي حتى لو كان صغيراً جداً، وبينها النسيج وخياطة وبيع الملابس وصنع المؤونة المنزلية وغيرها”.
وحول التقديمات التي توفرها “مزايا” للسيدات تشرح العلام أن المنظمة النسوية ترعى تدريبات لرفع قدرات النساء في كل المجالات سواء المهنية أو التعليمية أو الأكاديمية، وتوفر دعماً تقنياً وتسويقياً لبعض المشاريع الصغيرة للنساء، إضافة إلى خدمات قانونية واستشارية. كما تسعى إلى أن تكون جهة وساطة في حلّ نزاعات بعض النساء، وتنفذ برامج دعم نفسي للنساء في مركزها ببلدة باريشا.
من خلف جدران الأقمشة التي باتت تفصل بين المنازل بعدما دمّر النظام السوري تلك الإسمنتية، ترمق نساء مخيم “المدينة المنورة” نظرات الأمل بتحقيق أمنياتهن، وإنهاء آلامهن في العيش الآمن بعيداً عن أصوات الطائرات والمدافع التي أنهكت حياتهنَّ وأرعبت أطفالهن. فآلة القتل لا تزال تعزف على وتر موتهنّ مع أبنائهنّ، حتى بعدما هربهنّ إلى خيم قماش لا تقيهم حرّ الصيف ولا برد الشتاء.
عائشة صبري _ العربي الجديد