هل أوحى لكم العنوان بأن المضمون سيكون إضافةً جديدةً لسلسلة نبوءات وأماني بعض الرؤوس الحامية من أبناء الشعوب المغلوبة. حيث نقرأ كثيراً عناوين من مثل “غروب العصر الأميركي، بداية اندثار الحضارة الأوروبية وأفول نجم القياصرة”؟ لا، لست من هؤلاء.
ببساطة، عنوان المادة مقتبس من مقالةٍ نشرتها صحيفة الفايننشال تايمز قبل فترة وجيزة. ويجدر بي الإشارة إلى أن الاقتباس شابَهُ شيءٌ من “التدليس”. لكن دفعاً لأي شبهة إضافية، هذا هو العنوان الكامل للمقال: “نزوح جماعي من صناديق الأسهم الأوروبية تحسباً لعاصفة ركود”. يؤكد الكاتب أنه وبحسب بيانات شركة بلاك روك: “سحب عدد من المستثمرين أموالهم من صناديق الأسهم الأوروبية المتداولة في بورصة ETF، وقد تجاوز الرقم المسحوب خلال شهر آب/أغسطس الماضي عتبة 7.7 مليارات دولار، وهو رقم ضخم إذا ما قورن بصافي التدفقات الخارجية التراكمية، من الصناديق ذاتها ابتداءً من شباط/فبراير ولغاية تموز/يوليو، التي لم تتجاوز 11.7 مليار دولار”.
سأحاول هنا لعب دور فاعل الخير، مبيناً أنّ حركة الأموال/التدفقات في كل أنحاء العالم، خلال شهر آب/أغسطس الماضي بلغت 49.4 مليار دولار، وقد استقطبت الولايات المتحدة الأميركية الحصة الأكبر من هذا “النزوح”. بلغت التدفقات الخارجية الواردة إليها 30.2 مليار دولار، علماً أن هذه التدفقات لم تتجاوز 12.6 مليار دولار خلال شهر تموز/يوليو الماضي، أي قبل شهر واحد فقط. وهذا يؤشر أن الاقتصاد الأميركي ليس ملجأً آمناً فقط لدول العالم الثالث، بل حتى للأوروبيين.
من المؤكد أن حركة رؤوس الأموال العالمية تخضع لاعتبارات اقتصادية وتجارية وسياسية متعددة ومتشابكة، لكن هل ستستقر أموال أوروبا الخائفة تحت سطوة صناديق أميركا الآمنة؟ ربما. مع ملاحظة أن أميركا هي الأقل خسارة من بين جميع الأطراف المشاركة في إشعال الحريق الأوروبي. يستوجب هذا السؤال التطرق لأسئلة سابقة عليه، خصوصاً في الحقل السياسي والعسكري. والحلقة الأهم في هذا المجال، ما يُثار اليوم عن توسع حلف الناتو. وقد تعطي إطلالة سريعة على تاريخ توسع الحلف فكرة أو تجيب عن سؤال يردده البعض، هل تتم محاولات توسيع الحلف اليوم لردع التمدد الروسي، أم أن الروس يتمددون لكبح جماح الناتو المتجه شرقاً نحو حدودهم؟
في نهاية التسعينيات كانت التوسعة الأولى للناتو التي جرت على حساب حلف وارسو المنهار. تم التقديم لذلك بأنه توسع يهدف لحماية أوروبا من فوضى انتشار السلاح السوفييتي، إثر تفكك الأخير. في العام 1996 تبنى الرئيس الأميركي بيل كلينتون خطة التوسعة بذريعة “أمن أوروبا”. بعد سنوات قليلة سنكتشف من تصريحات تالية لأميركيين مطلعين، أن غاية كلينتون الحقيقية كانت كسب أصوات الناخبين الأميركيين من أصول بولندية ومجرية ورومانية. ستنضم فعلاً بولندا والمجر للحلف عام 1999، وستنتظر رومانيا مع ست دول أوروبية شرقية أخرى حتى عام 2004.
هذا الاستثمار الأميركي السياسي، لملفات تحالف بحجم الناتو، بغية مكاسب داخلية، يعزز رؤية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للناتو. في مقابلة نشرتها صحيفة ذي إيكونوميست البريطانية عام 2019 تنقل عن ماكرون: “الناتو ميت إكلينيكياً، فهو يفتقر للتنسيق مع عدم القدرة على التنبؤ بالسياسة الأميركية، كما أنه قام على أسس خاطئة، فالمادة الخامسة من معاهدة واشنطن المؤسّسِة للناتو، تؤكد على أن الاعتداء على أي دولة في الحلف، يعتبر اعتداء على كل دوله”.
سيضيف ماكرون، غامزاً من قناة احتكار أميركا للحلف: “لكن هذه المادة لم تطبق إلا مرة واحدة، عندما تعرضت الولايات المتحدة لاعتداءات الحادي عشر من أيلول عام 2001”. يبدو أن ماكرون أيضاً أراد لعب دور فاعل الخير حين أطلق تصريحه هذا. عموماً لفرنسا تاريخ إشكالي مع الحلف، فقد سبق أن انسحبت من الناتو بأمر من الرئيس الفرنسي شارل ديغول عام 1969 وبقيت خارجه تماماً، لأكثر من ثلاثين عاماً.
في العام 2008 غزا الروس أوسيتيا الجنوبية، وبعد ستة أعوام احتل الجيش الروسي شبه جزيرة القرم. حصلت ردات فعل قوية، لكنها لا تقاس ولا تقارن، بشدة وجدية ما تبع غزو الروس لأوكرانيا في شباط من العام الجاري، حيث الدعم العسكري والمالي المفتوح للأوكرانيين. ترافق ذلك مع شنّ حرب اقتصادية قادتها أميركا ومن خلفها الناتو ضد روسيا. لنلاحظ ونتساءل عن صبر الناتو وأميركا الطويل، لأربعة عشر عاماً على احتلال أوسيتيا. أعوامٌ حفلت بالعربدة البوتينية على أطراف أوروبا.
أكدت تقارير سياسية كثيرة، أن التراخي النسبي للناتو أيام القرم، ثم الحزم بعد ذلك في أوكرانيا، مرتبطان بالرؤية التي تملكها كل إدارة أميركية، بدايةً بالرئيس وانتهاءً بالحزب الذي يشكل أغلبية الكونغرس. بعد كل اعتبارات الأمن القومي الأميركي، يأتي أمن أوروبا وأطرافها تالياً. لذا فإن مصير القارة العجوز في وجه الدب الروسي، سيبقى رهن خريطة المصالح الأميركية، ومزاج الناخب الأميركي الذي قد يعطي لترامب فرصة رئاسية ثانية بعد سنتين من الآن، وهذا سيعني أربع سنوات تكون فيها (أميركا أولاً) بحسب سلم أولويات ترامب، الذي حتى لا يعتبر مسألة أمن أوروبا أو ملف الناتو ثانياً، ولعل الأمر يحدث قريباً، فانتخابات الكونغرس الأميركي بعد شهرين من الآن، ومجيء أغلبية جمهورية/ترامبية، سيجعل إدارة الرئيس الحالي بايدن أقل قدرةً وفعالية في تطبيق سياستها الرامية لتفعيل دور الناتو.
للطرافة يرى بعض المحللين أن أوروبا لم تبلغ سن النضج العسكري بعد، ما يمكّنها للخروج من وصاية واشنطن. كانت هناك محادثات عام 1952 لقيام ما سمي “الجيش الأوروبي”، أو “مبادرة التدخل الأوروبي” فيما بعد. يومها أدّى رفض فرنسا لانضمام ألمانيا الغربية، لعرقلة تنفيذ الفكرة.
تتزامن الانتخابات التشريعية الأميركية مع حلول فصل الشتاء في القارة العجوز، التي يسجل اقتصاد معظم دولها معدلاتٍ قياسية فى ارتفاع مستوى التضخم، مع تراجع سعر صرف اليورو والجنيه الإسترليني أمام الدولار. يؤكد الخبراء أن هذه المعدلات لم تبلغ مداها الأقصى انحداراً بعد، فهي مرشحةٌ لتسجيل انتكاسات أقوى، لحين عودة الغاز الروسي إلى شرايين القارة.
هناك من يرى أنه طالما بقيت الحال على ما هي عليه، سيبقى مصير الأمن القومي للأوربيين بيد واشنطن، ومصير معظم اقتصادهم كذلك، حتى تقرر أوروبا إعادة بناء استراتيجية تكاملية تنتهي بإنشاء الجيش المؤجل. النقاش يجب أن يبدأ من عتبات الثقة بالنفس المنهارة لدى الأوروبيين منذ عقود، ما يجعلهم يحتاجون الأميركي على الدوام. ثقةٌ مزعزعة خلفتها الحرب العالمية الثانية، ومساهمة أميركا الحاسمة في نصرٍ ما كان محسوماً دونها.
هناك معوق آخر في طريق الأوروبيين. بحسب “يان تيكاو” المستشار لدى صندوق مارشال الألماني، يتمحور حول حالة انعدام الثقة البينية التي تسود معظم القارة: “الفرنسيون والألمان يعانون من حالة انعدام كاملة للثقة ببعضهما بعضاً، والإيطاليون لا يثقون بأي منهما. الألمان فاقدون للثقة حتى في أنفسهم، كما أن وارسو لا تثق ببرلين، وبوخارست لا تثق ببودابست، وسكان البلقان لا يثقون بأي أحد على الإطلاق، وهكذا دواليك”.
طبعاً لا تزال شمس أميركا ساطعة، ولا مؤشرات توحي بغروبها عن أوروبا في المدى المنظور، كما أن أوروبا تملك مناعةً تجعلها بمنأى عن سيناريو/فانتازيا الأحلام الفارغة عن انهيار نهائي وشيك. لكن المؤشرات الحالية توحي بأن مجتمعاتٍ أوروبية بعينها ستضطرُّ قريباً، للتكيف والعيش خارج ثوب الفتى المدلل الذي ارتدته لعدة عقود.
مالك داغستاني _ تلفزيون سوريا