syria press_ أنباء سوريا
في دولة غربية ما، قد يحالفك الحظ وتلتقي بقائد الثورة السورية. ربما، بعد أن يرتاح إليك قليلاً، سيخبرك كيف حرّض الآخرين على التظاهر، وكان لتحريضه الأثر الأول والأخير، وكيف اندسّ في ثورته أصحاب نوايا خبيثة، فسرقوها. هو، منذ ما يزيد عن تسع سنوات ونصف، حزين على ثورته التي سُرقت منه، وهو حزين بصدق لأن من سرقوها ضيّعوا فرصة نجاحها. المآل البائس لهذا النموذج يُضطره إلى التواضع، فيكتفي بالقول أنه الثورة، ولا يقولها مباشرة أو بنبرة من يزعم امتلاك القوة: نحنا الثورة ولاك! وهو على أية حال مثل كثر ينطوي كلامهم أو سلوكهم عل تلك الجملة من دون النطق بها.
الجملة الأصل التي اشتُهرت منذ حوالى أربعة أعوام هي: نحنا الدولة ولاك! وظهرت بما يشبه وسْماً يعبّر عن جيل من مراهقي جيل الألفين، يتوجهون به إلى جيل التسعينات السابق عليهم. العبارة تتضمن زعم القوة الذي تختزنه “الدولة”، والمقصود بالدولة هي السلطة المطلقة لا مفهوم الدولة ككائن مؤسساتي مستقل، بل على العكس هي “الدولة” التي لا تعبأ بأية مؤسسة ولا تبالي بأية قيمة؛ هي القوة العارية المطلقة، وهي كناية إجبارية عن السلطة الوحيدة التي خبرها هذا الجيل، سواء كانت سلطة الأسد أو سلطات الأمر الواقع الأخرى التي يخشى التصريح باسمها.
هناك في الميديا نماذج عديدة تفصّل في “نحنا الدولة ولاك”، تشرح معناها، أو تسخر من أصحابها خاصةً من قِبل أبناء الجيل الأسبق. هناك أغاني راب مثلاً، وهناك أغانٍ بدوية نسمع في إحداها من يغني “كل الهلا بالدولة أبو عيون وساع”، في تأكيد على أن “نحنا الدولة ولاك” هي شخص متكلم ما. أما رواج العبارة خارج أبناء الجيل فهو مرتبط على الأرجح باختصارها حدّين كتناقضين، هما التفاخر المطلق والحاجة المخفية للحصول على الاعتراف العام.
كان انطلاق الثورة، في أحد جوانبه، تعبيراً عن توق السوريين إلى الحصول على الاعتراف بهم في مواجهة سلطة ارتكبت كل الجرائم لإبقائهم مغيّبين. لم تكن مصادفة أن يُفاجأ العالم بالسوريين، بوجودهم كمجموعة بشرية قبل مفاجأة صمودهم وإصرارهم على تحدي السلطة. في المقابل، كانت سياسة الإنكار التي اتبعها الأسد والتركيز على أنها مؤامرة كونية استئنافاً للتعتيم على وجود السوريين نفسه؛ هم لا وجود لهم، وفي أحسن حالات وجودهم هم قلة من المارقين الذين لا يصلحون أكثر من أداة للآخرين.
من المفهوم أيضاً أن نسبة ممن شاركوا في الثورة، أو احتسبوا أنفسهم عليها، لديهم ذلك التوق الشخصي للحصول على اعتراف بوجودهم أو قيمتهم، الأمر الذي كان متعذراً في ظل سلطة الأسد جراء قلة الفرص وتعزيز ثقافة التقاتل على اقتناص القليل المتاح من الفتات. أولئك الذين اعتادوا ندرة الفرص، والتهافت عليها خارج معايير الكفاءة، ستكون الثورة فرصتهم الشخصية التي لا تستتب إلا على حساب الآخرين، أي وفق محاكاةٍ مفادها “نحنا الثورة ولاك”، بما تضمره الأخيرة من تثمين مفرط للذات وإنكار تام للآخر.
مبكراً، تعدى ذلك كونه مجرد ظواهر شخصية يمكن تفهمها والتسامح معها باستحضار مبرراتها. بعد أشهر قليلة من انطلاق الثورة، سيطغى ذلك النزوع إلى احتكار تمثيل الثورة سياسياً، من دون المرور بآليات شفافة ومقنعة للحصول على تفويض بذلك. ثم، مع مرور الوقت، سيبقى فقط أولئك الذين تشبثوا بالفرص التي أتتهم أو سعوا إليها، مع الإصرار على أن الثورة مستمرة طالما هم باقون في مناصبهم. إنهم هم الثورة طالما بقوا مصرون على أنها مستمرة، ما لا يختلف في الجوهر عن الذين يؤرّخون انتهاءها بانسحابهم منها.
ما شهدناه في المستوى السياسي سنرى مثله في الحرب الداخلية بين فصائل يُفترض أنها وُجدت لتقاتل الأسد، وتلك الحروب البينية لا تختصرها حرب الفصائل الجهادية على سواها، فقد بدأت قبل استقواء الأخيرة التي لا تقبل بأقل من تمثيل مشيئة الله، وكانت بين فصائل يدّعي كل منها أحقيته بتمثيل الثورة. هذه المرة لم يكن السلاح يقول “نحنا الثورة ولاك” في مواجهة سلاح “صديق” فحسب، بل كان مختلف حاملي السلاح يقولونها لنشطاء موجودين في أماكن سيطرة تلك الفصائل، وكانت تُقال لعموم المدنيين في تلك المناطق.
لم يكن المستوى الإعلامي خارج الظاهرة ذاتها، مع التنويه بالعدد الضخم للمنابر التي أُنشئت بتمويل خارجي، ومن المرجح أن أية ثورة أخرى لم تحظَ بمثله. وإلى جانب ذلك النزوع إلى احتكار تمثيل الثورة على الأصعدة المذكورة، برز النزوع إلى احتكار فهم الثورة، ومن ثم محاولة فرض سردية للثورة أو محاولة فرض إنكارها كثورة. القادمون من السلالة البلشفية لكتاب الثورات دأبوا طوال الوقت على إعلانها؛ “نحنا الثورة ولاك”، وثورتكم ليست بثورة أصلاً. ومن المفهوم أنهم لن يقبلوا بثورة لا يكونون سدنتها، ولا تكون ثورة مع وقف التنفيذ. بينما وجد آخرون ضالتهم في كتاب الثورة الفرنسية وما تلاها، لأن الاستشهاد بها يبيح القول باستمرار الثورة وبقائهم ممثلين لها. لا نستثني المناكفات التي ستبرز لأسباب مستجدة لا علاقة لها بلحظة انطلاق الثورة، ومنها مؤخراً استرجاع بعض الأكراد الانتفاضة الكردية عام2004، بوصفها الثورة الحقة بالمقارنة مع ثورة “الإرهابيين” عام2011.
لم تكن تلك مجرد ظواهر فردية انتهازية ترافقُ جميع الثورات، لقد كانت عبارة “نحنا الثورة ولاك” كامنة في العديد من الصراعات المؤثرة، وفي تعويم ما وصلنا إليه خلال عشر سنوات، وحتى في الإصرار على استمرار الثورة فقط من أجل المستفيدين من تلك العبارة، وهو يختلف بالتأكيد عن إصرار الذين تظاهروا في الداخل، وفي حوران “مثلاً” التي عادت إلى سيطرة الأسد باتفاق أمريكي-روسي-إسرائيلي. تماهى المستفيدون من تلك العبارة المضمرة في خطابهم معها، وصاروا سلطة واقعية أو معنوية، وبمفهوم السلطة التي تتحول إلى عائق أمام التغيير.
الجيل الذي أطلق “نحنا الدولة ولاك” تخطّى مراهقَته، وربما يضحك أبناؤه الآن من تلك العبارة. بقي أن يفعل المثل أصحاب “نحنا الثورة ولاك”، هؤلاء الذين لم يتوقف جوعهم عن الغرف من الرصيد المادي أو المعنوي للثورة، وعلى حساب شركائهم فيها. يبقى تذكيرهم بظهور “نحنا الدولة ولاك” في مكان لا دولة فيه، وتحديداً بسبب ذلك.
محمد قدور _ المدن