شهد الشارع التركي في الآونة الأخيرة تبدلاً واضحاً في التعامل مع ملف اللاجئين السوريين،وتجلى ذلك في التراجع الملحوظ لخطاب الكراهية والعنصرية، الذي طغى بقوة خلال أشهر الصيف في السنة الفائتة، على مختلف مواقع التواصل الاجتماعي ليحتل المراتب الأولى في تصنيفات الـ (ترند) في تويتر و فايسبوك.
هذا التراجع “الشعبي” تزامن مع تغيّر واضح في نمط الخطاب السياسي المعارض للوجود السوري داخل تركيا، بعد الحملة الدعائية الشعواء التي شنّتها قوى سياسية معارضة للحكومة وللحزب الحاكم في البلاد، لتتحوّل في بعض المناطق المتأثرة بخطابها الهجومي إلى اعتداءات مباشرة طالت السوريين وممتلكاتهم.
وكما يعلم غالبية المتابعين، فقد نالت مدينة إسطنبول النصيب الأوفر من إفرازات تلك الحملة ضمن ما صار يُعرف داخل الوسط السوري بـ “حملة الكيملك” وما ترتّب عليها من ترحيل للسوريين المخالفين لشروط الإقامة في إسطنبول، ممّن يحملون بطاقات الحماية المؤقتة الصادرة من ولايات أخرى، وإعادتهم إلى ولاياتهم، بالإضافة إلى ترحيل قسم آخر إلى الشمال السوري لأسباب أخرى من اختصاص وزارة الداخلية.
اليوم، وبعد انقضاء نحو 5 أشهر على بدء الحملة، وبعد انتهاء المهلة الممنوحة من الداخلية لمغادرة السوريين المخالفين ولاية إسطنبول والعودة إلى ولاياتهم –نهاية تشرين الأول/ أكتوبر المنصرم، يبدو أن فريقاً واسعاً من المعارضة التركية لمس ما تعرض له السوريون نتيجة حملة إسطنبول الأخيرة، فطرأ تغيّر ملموس على خطابه. وبدا ذلك جلياً في موقف مرشح رئاسة الجمهورية السابق عن حزب الشعب، محرم إينجه، الذي صرّح بأن “75% من اللاجئين السوريين في تركيا لن يعودوا إلى ديارهم”.
وقال إينجه في مقابلة على قناة (سي إن إن تورك)، في 28 أكتوبر الماضي:”يتعين علينا كمعارضة أن ندعم الحكومة في إيجاد حلول اندماج للسوريين في المجتمع التركي، وأن لا نشغل بالنا ونضيع 15 سنة قادمة عبثا في الخوض في ملف اللاجئين”.
وأضافأيضاً”بات علينا الكف عن توجيه الاتهامات للرئيس أردوغان بأنه هو سبب قدوم السوريين، وأن نساعده بدلاً من ذلك وأن نقف معه”.
تصريحات إينجة كان لها وقع الصدمة سواء على شريحة واسعة من أطياف المعارضة التي استهجنتها وكذلك على فريق العدالة والتنمية ومناصريه واللاجئين السوريين، الذين عبروا عن ارتياحهم لتلك التصريحات.
- مؤتمر المعارضة التركية عن اللاجئين السوريين وبداية التحوّل:
حين أعلن حزب الشعب الجمهوري عن إطلاق مؤتمر دولي هو الأول من نوعه يتناول ملف اللاجئين السوريين، في نهاية أيلول/ سبتمبر الماضي، قاطعته غالبية وسائل الإعلام التركية الحكومية بالإضافة إلى العربية والسورية العاملة على الأراضي التركية بالرغم من توجيه الحزب الدعوة لمعظمها، نتيجة مواقف الحزب السلبية من اللاجئين السوريين واستغلال ملفهم للضغط على العدالة والتنمية وتوجيه الانتقادات له في أغلب المناسبات لا سيما خلال الحملات الانتخابية على مختلف أشكالها. إضافة على توجيه الحزب الدعوة لممثلين عن نظام الأسد لحضور المؤتمر.
ونتيجة تلك المقاطعة الإعلامية غاب عن الإعلام عموماً والسوريين بوجه الخصوص ما طُرح داخل قاعة المؤتمر من مداخلات ومحاضرات على قدر كبير من الأهمية.
إذ حمّل العديد من المحللين والأكاديميين والصحفيين الأتراك المعارضين في المؤتمر مسؤولية تزايد أعداد اللاجئين وهروبهم نحو تركيا وبقية الدول، إلى الحرب التي يشنها نظام الأسد بالدرجة الأولى.
وعبّرت الأستاذة الجامعية التركية “باشاك يالجاك” عن هذا بالقول “لا يمكن إعادة اللاجئين السوريين إلى ديارهم إلا من خلال إحلال السلام داخل سوريا”. كما أشار الخبير العسكري التركي “أحمد يافوز” إلى أن “طالما الأسد ما يزال موجوداً في السلطة فإن اللاجئين لن يرجعوا”.
أما المحلل “متين غورجان” فيرى أن الخطوات التي تساعد على إنهاء أزمة اللاجئين تتمثل أولاً في “وقف إطلاق النار ثم تشكيل الدستور ثم إجراء انتخابات حرة ونزيهة، ليحلّ بعد ذلك السلام الذي يمهّد عودة اللاجئين”.
وكان اللافت للانتباه تعاطف غالبية المشاركين مع حالة اللجوء السوري بداخل تركيا، ودعوتهم إلى تفعيل الخطوات اللازمة لأجل تطبيق آليات الانسجام والاندماج والملائمة الاجتماعية بين السوريين والأتراك.
فتطرّقت الناشطة الاجتماعية “سما كارا عثمان أوغلو” إلى أهمية التعليم في حياة السوريين ودعت إلى الاهتمام بتعليم الأطفال داخل المدارس التركية، بالإضافة إلى تأمين فرص تعليم المهن لفئة الشباب من الجنسين.
كما أشارت إلى “أهمية مواجهة إطلاق الأحكام المسبقة ضد السوريين والتي تسببت في تشكيل مفاهيم مغلوطة لحالات اللجوء في الشارع التركي”.
أما “باشاك يالجاك” فقد نوّهت في مداخلتها إلى ضرورة “إفهام الشارع التركي بأن السوريين لا يقبضون رواتب من الحكومة التركية وإنما تصلهم مساعدات ومنح من الاتحاد الأوروبي واليونسيف”.
توقيت المؤتمر جاء عقب حملة ترحيل السوريين من إسطنبول إلى الشمال السوري وبقية الولايات التركية، والتي أفرزها فوز المعارضة التركية ببلدية إسطنبول، نهاية حزيران/ يونيو الماضي.
فساهمت الحملة من مضاعفة أثر التهجير على نفوس السوريين اللاجئين وشعورهم المتنامي بالإقصاء والرفض داخل المجتمع التركي، ما تسبب بإثارة موجة عارمة من سخط واستهجان فريق واسع من السوريين كان يدعو فيما مضى إلى ضبط النفس و”احترام خصوصية المجتمع التركي” وتفهّم “الظروف المحيطة والضاغطة على الحكومة التركية من معارضة الداخل ومن التهديدات الخارجية”.
فقبل ذلك تعرّض السوريون في العديد من الولايات لانتهاكات استهدفتهم واستهدفت ممتلكاتهم ووجودهم، بدءاً بحادثة اغتصاب “مريم” وقتلها مع جنينها وطفلها في إحدى غابات ولاية سكاريا وليس انتهاء بتلفيق جرائم التحرّش التي اتّهم بها السوريون، في كل من هاتاي وغازي عينتاب وإسطنبول وأضنة، لتتعرض منازلهم ومحلاتهم وممتلكاتهم للحرق والتحطيم وتتم المطالبة بطردهم قبل أن يتبيّن أن مرتكبي جميع جرائم التحرش هم من الأتراك.
جميع تلك الانتهاكات اعتبرها معظم السوريين إما أخطاء فردية أو غير مقصودة نتيجة تدخّل السلطات والجهات المعنية والقبض على مسببي المشاكل ومرتكبي الجرائم، ونتيجة تفاعل طيف واسع من المجتمع التركي في استنكار ما يتعرّض له السوريون، ورغبة من الأخيرين أيضاً في الحفاظ قدر المستطاع على استقرارهم ومستقبل أبنائهم الذين باتوا يتعلمون في المدارس التركية وجامعاتها.
وبعد اشتداد الحملة وانتشار أخبار المرحّلين إلى مناطق الشمال السوري المشتعلة وصورهم المحزنة وهم محتجزون ومقيدون داخل الحافلات التي أقلّتهم إلى الحدود، طالبت منظمات وجمعيات مدنية تركية عديدة بإيقاف الحملة وانتقاد مؤججي الكراهية ضد السوريين،وشعر العديد من الأتراك المعارضين للوجود السوري بمدى الخطأ الإنساني المرتكب ضد اللاجئين.
ولعل حادثة انتحار الطفل “وائل” ذو التسع سنوات، في مدينة “كوجالي”، بعد خروجه من المدرسة. جاءت بمثابة الصدمة الكبرى التي تجاوزت أوجاع السوريين على آلاف الأطفال الذين قضوا نحبهم تحت قصف الروس ونظام الأسد. فالأرض التي قصدوها لحماية أطفالهم وتعليمهم باتت اليوم تهدد حياتهم ومستقبلهم، وأضحت حياة ما يقرب من 600 ألف طفل يدرس في المدارس التركية على المحكّ، وبدأ الخوف يتسلل داخل نفوس أهاليهم.
ونتيجة تلك الحادثة بالذات وانتشار تفاصيلها في مختلف وسائل الإعلام التركية وصفحات التواصل الاجتماعي وما كُتب عن دوافعها وأسبابها، تبيّن لأهالي الأطفال الأتراك مدى تأثّر أبنائهم بخطاب الكراهية الذي يُلقى على مسامعهم ليتحوّل مع الوقت إلى سلوكٍ عنصري يستهدف أقرانهم من الأطفال السوريين داخل المدارس، وساهم ذلك كله بتراجع ملحوظ في نسبة الخطاب المعادي للاجئين السوريين.
- الزلزال ومحمود السوري:
مؤخراً، وبعد تعرّض مدينة “إلازيغ”، شرق تركيا، للزلزال المدمّر، انتشر كالنار في الهشيم مقطع فيديو السيدةالتركية في المستشفىوهي تروي البطولة التي أظهرها الشاب “محمود” لإنقاذها هي وزوجها من تحت أنقاض منزلهما في حي “سورسورو” في إلازيغ دون أن يكترث للجروح التي أصابت يديه.
واحتلمقطع الفيديو منصات التواصل الاجتماعي، حيث روت السيدة ما جرى معها بحرقة قائلة: “الشاب محمود، الذي أنقذ حياتي، هو من السوريين الذين نلومهم في كل شيء، لقد حفر بأصابعه بين الأنقاض إلى أن أخرجني”.
وعقب انتشار مقطع الفيديو بالمنصات الاجتماعية، تصدر هاشتاغ #Suriyeli_Mahmut(محمود السوري)، قائمة الترند على “تويتر” في تركيا، حيث وصف المشاركون في الهاشتاغ محمود بـ”البطل” و”المنقذ” و”الشجاع” وغيرها من الصفات التي تصور فعله.