يتزامن الحديث عن إعادة اللاجئين السوريين المقيمين في تركيا إلى مناطق الشمال والشمال الغربي من سوريا، مع جملة من المُستجدات والمواقف الدولية ذات الصلة المباشرة بالشأن السوري، لعل من أبرز تلك المواقف المُستجدّة قرار الإدارة الأميركية الذي يستثني مناطق الشمال السوري من عقوبات قانون قيصر، ما دفع الكثير إلى التساؤل عمّا إذا كان هذا التزامن مقصوداً أو أنه جاء نتيجة توافقات بينية بين واشنطن وأنقرة، أم أنه كان بمحض الصدفة، ولا علاقة للمشروع التركي بالاستثناءات الأميركية الجديدة؟
ولئن كانت مسألة اللاجئين السوريين في تركيا لا تحتاج إلى مزيد من الكلام، بحكم أنها تحوّلت من شأن حكومي إلى قضيّة رأي عام تركي، ما دفع الحكومة إلى طرح مشروع يجعلها تنتزع المبادرة من الأطراف الحزبية المعارضة، ومن ثم تبقى هي من يمسك بمفاصل إدارة هذه القضية وتداعياتها الإعلامية التي يرتفع منسوبها كلّما اقترب موعد الانتخابات المقبلة، إلّا أن المسألة من وجهة نظر واشنطن تبقى محفوفة بكثير من الغموض، إذ لا أحد يستطيع القطع بتأييد أو رفض واشنطن للمشروع التركي الجديد، وخاصة في ظل غياب أي مواقف رسمية أمريكية بهذا الخصوص.
وربما ذهب البعض إلى أبعد من هاتين الخطوتين المتزامنتين، حين يربط الموقفين الجديدين الأميركي والتركي بجملة من الخطوات التي أقدم عليها نظام الأسد، منذ بداية شهر نيسان الفائت، ابتداء من سنّ قانون تجريم التعذيب، وكذلك الاستعاضة عن وزير الدفاع السابق بآخر جديد، ومن ثم إصدار قانون العفو عن معتقلين في السابع من شهر أيار الجاري، إذ ثمة مَن يجد بين هذه الإجراءات المستحدثة والمساعي الإقليمية الرامية إلى إعادة اللاجئين السوريين تعاطياً دولياً وإقليمياً جديداً مع القضية السورية، يرمي إلى تفتيتها وتقويض أركانها بالتقسيط، من خلال منهج (الاحتواء التدريجي للأزمة)، وهو المنهج الذي يمكن أن يجد ترجمته الفعلية في فكرة (خطوة مقابل خطوة) التي بادر بها الملك الأردني ولاقت دعماً إماراتياً وروسياً، ومن ثم أعلن عن تبنّيها المبعوث الدولي غير بيدرسون، ولعل ما يعزز التفكير بهذا المنحى لدى البعض هو أنه يلتقي مع الموقف الرسمي للولايات المتحدة الأميركية – بعيداً عن المواقف الإعلامية – من نظام الأسد، والذي ما يزال يؤكد على (تغيير سلوك النظام) وحسب.
وسواءٌ أكانت تلك التكهّنات صحيحة أم لا، فإن ما يجعلها موضع ريبة بالنسبة إلى الكثيرين هو أن جميع تلك الخطوات والأفكار الجديدة حيال الشأن السوري إنما تجري ويتم تداول الحديث عنها بمعزل عن العملية السياسية المنبثقة من القرارات الأممية، بل ربما غاب الحديث الدولي المتواتر كما في السابق، عن ضرورة تطبيق القرار 2254، بل بات الحديث يتركز عن الآليات التي يمكن من خلالها إعادة اللاجئين، وكذلك عن المعايير التي يمكن تطبيقها على عملية استثناء مناطق سيطرة “قسد” من عقوبات قانون قيصر، وهل سيشمل هذا الاستثناء مناطق جرابلس واعزاز والباب وعفرين أم لا.
ففي قضية المعتقلين مثلاً يمكن ترجمتها إلى (العفو مقابل العفو)، أي بمجرد أن عفا رأس النظام في سوريا عن بضعة مئات من المعتقلين، فيتوجب على الطرف الآخر (المجتمع الدولي) أن يعفو عن المجرم، بعيداً عما في سجلّه الإجرامي من فظائع.
وبإيجاز شديد، إن جذر المشكلة لم يعد يتمثل بوجود حاكم بطش بشعبه، فقُتل من قُتِل، وتشرّد من تشرّد، بل بات التفكير الدولي مشغولاً بكيفية إعادة الضحايا إلى حظيرة جلّادهم، والتماس السبل والإغراءات التي تقنعه بالكفّ عن قتل مَن عاد إلى حظيرته صاغراً تائباً نادماً على عقوقه السابق، بل ربما أدى القبول بفكرة (خطوة مقابل خطوة) إلى الرغبة في تطويرها أو جعلها نموذجاً يمكن من خلاله التعاطي مع كل القضايا الأخرى، ففي قضية المعتقلين مثلاً يمكن ترجمتها إلى (العفو مقابل العفو)، أي بمجرد أن عفا رأس النظام في سوريا عن بضعة مئات من المعتقلين، فيتوجب على الطرف الآخر (المجتمع الدولي) أن يعفو عن المجرم، بعيداً عما في سجلّه الإجرامي من فظائع.
على أية حال، لا يمكن التنكّر لحالة من القلق والتوتر الشديدين، ليس لدى اللاجئين السوريين في تركيا فحسب، بل لدى الكثيرين ممن يقيمون في أماكن النزوح بالداخل السوري أيضاً، وذلك في ظل تواتر أخبار تتناقلها وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، أخبار تتحدث عن مصيرهم وعما ستؤول إليه قضيتهم الأم، إلّا أن ما يعزز ذاك القلق وحالات الخوف هو الصمت الذي تختبئ به كيانات المعارضة الرسمية بشتى تلاوينها، فهي الوحيدة التي تنأى بنفسها عن الحديث بخصوص ما يطول مصير السوريين، فكأنها لا صلة لها بالموضوع من قريب أو بعيد.
فعلى الرغم من زخم الحديث المتصاعد عن إعادة اللاجئين السوريين وما يوازيه من أخبار أخرى، تصمت المعارضة (الائتلاف – حكومة مؤقتة – هيئة التفاوض) دون أية محاولة لمواجهة السوريين، الذين من المفترض أنها تدعي قيادتهم وتمثيلهم، لتخاطبهم بما لديها من مواقف حيال ما تطرحه الدول حول قضية ومصير الشعب السوري، الأمر الذي يدفع الكثيرين إلى الاعتقاد بوجود أحد أمرين وراء صمت المعارضة: إمّا أنها لا تعلم شيئاً على وجه اليقين، وهذا ليس مُستغرباً لوقوعها دوماً خارج دائرة صنع القرار، وإمّا أنها تعلم بعض الخيوط ولكنها لا تجرؤ على مواجهة السوريين أو مصارحتهم بما ينتظرهم من مصائر، ولكن في كلتا الحالتين فإن النتيجة تبدو واحدة، ولو امتلكت المعارضة المعنية بعض الجرأة لقالت لجميع اللاجئين والنازحين المعنيين: اذهبوا وواجهوا أقداركم بأنفسكم ولا تنتظروا منا شيئاً.
لعله بات واضحاً للجميع أن مجمل أنساق الثورة السورية قد أُفرغت من حمولاتها المادية، أو القابلة للتجسيد على الأرض، وربما أدّى فقدانها لمجمل أوراق القوّة إلى بقائها شكلاً فقط دون أية فاعلية، ولكن ما يمكن تأكيده بقوّة أيضاً هو أن انحدار الأنساق التقليدية للثورة أو إفلاسها، يقابله صعود وثبات للنسق الأهم، وأعني الحيّز الأخلاقي والإنساني الذي يمكن أن يتموضع في النسق الحقوقي، ووصفه بالأهمّ لأنه هو الوحيد الذي يمتلك المعرفة الحقيقية لماهيّة الطغمة الأسدية، وكذلك هو الوحيد القادر أن يؤكّد للعالم أن قضية السوريين لا يمكن اختزالها بصراع سياسي بين نظام ومعارضة، وليست خلافاً حول تصورات عن دستور جديد، بل هي بإيجاز شديد مواجهة وجودية بين شعب يطالب بحقه بالعيش الكريم والأمن والسلام، وبين طغمة لا تملك سوى الإبادة والاستئصال البشري كشرط ضامن لبقائها واستمرارها في السلطة.
ما يزال النشاط الحقوقي السوري قائماً على جهود فردية، أو جهود لبعض المنظمات التي تفتقر إلى التنسيق فيما بينها في أغلب الأحيان، ما يجعل مُنتجها مُشتتاً لا يوازي فداحة جرائم النظام الأسدي
ولكن من المؤسف أن النسق الحقوقي الذي نتحدث عنه كحيّز وحيد يضمر الوجه الأنصع لقضية السوريين، إلّا أن قوّته الأخلاقية يخذلها انعدام التأطير والتنظيم، إذ ما يزال النشاط الحقوقي السوري قائماً على جهود فردية، أو جهود لبعض المنظمات التي تفتقر إلى التنسيق فيما بينها في أغلب الأحيان، ما يجعل مُنتجها مُشتتاً لا يوازي فداحة جرائم النظام الأسدي. ومهما يكن من أمر، فإن غياب التنظيم والتأطير ليس قدراً مقدوراً على السوريين، ولا يمكن اعتباره سبباً كافياً للانكفاء، بل يجب أن يكون حافزاً لجميع السوريين الذين ما تزال ضمائرهم تحتفظ بمشروعية الثورة ونصاعة أهدافها، نحو الانطلاق لإعادة القضية السورية إلى مسارها الصحيح، ذلك المسار الذي يمكن عنونته بعبارة: (لا عودة لسوريا إلى نظام الإبادة الأسدي).
حسن النيفي _ تلفزيون سوريا