“أحمل في ذاكرتي صور منزلنا وهو مملوء بأكوام من المشتريات بعد عودة والدي من سوق (الهال)، هذه الصور التي أعرف أنها اليوم واحدة من مئات الذكريات التي لا يمكن أن تُعاش مجددًا في ظل الظرف الذي فرضته الحرب علينا جميعًا”، قالت “دانية” عبر مكالمة هاتفية مع عنب بلدي من منزلها في حي العدوي بدمشق.
“كانت المشاركة بترتيب المقتنيات الأسبوعية والشهرية فرضًا على كل أفراد العائلة، والمشاركة في التحضير للمؤونة الموسمية فرضًا حتى على الجيران”، تضحك “دانية” (36 عامًا)، وهو اسم مستعار لأسباب أمنية، مشيرة إلى أن والدتها كانت تشغل كل الجيران للتحضير للمؤونة.
“اعتدت نمط والدتي بالشراء، إذ استمررت بالتحضير للمؤونة، وشراء كميات كبيرة من كل ما يمكن تخزينه لأسباب متعلقة بالتوفير عند الشراء بسعر (الجملة)، أو ربما بحكم العادة”، تابعت “دانية”، مضيفة، “والدي كان صديق سوق (الهال)، حتى على صعيد المستلزمات اليومية، كان يذهب ليحضر احتياجاتنا بشكل أسبوعي لضمان توفرها في البيت بشكل دائم، إذ كان يغضب من وجود أي نقص في المنزل”.
ويشكّل سوق “الهال” جزءًا من ثقافة الاستهلاك في البيت الدمشقي، التي تعتمد على شراء كميات كبيرة من المواد الغذائية، استعدادًا لـ”المونة” الأسبوعية والموسمية التي تحمل طقسًا عائليًا عايشه معظم الدمشقيين بمختلف طبقاتهم الاجتماعية.
يمتد سوق “الهال” على مساحة واسعة في مدينة دمشق، وهو سوق لبيع الجملة أو الكميات الكبيرة، من الخضار والفواكه في أساسه، يتفرّع إلى العديد من الأسواق الصغيرة مثل: سوق اللحمة، وسوق “البزورية” أو السوق “المغطى” كما وصفته “دانية”.
من جهته، قال عمّار لعنب بلدي، عبر مكالمة هاتفية، “كان منزلنا من البيوت العربية القديمة التي حافظت على وجود (بيت المونة) الذي لم يخلُ يومًا من كل ما يمكن تخزينه، وما لا يمكن أيضًا”، مشيرًا إلى العديد من طرق المؤونة التي تعتمدها العائلات خاصة في ريف دمشق.
“كنا نجتمع جميعًا في أرض ديار لـ(تفصيص) الفول والبازلاء في مطلع أيار، وتقطيع الفواكه لصنع المربى صيفًا، ونجتمع حول المدفأة في أواخر تشرين الأول لـ(تجريح) الزيتون”، يستذكر عمّار لمة عائلته استعدادًا للمؤونة في كل موسم.
ويميل سلوك المستهلك في مختلف المجتمعات ليكون عادة متوارثة بين أفراد المجتمع، إذ يتأثر بالقيم السلوكية والتقاليد للمجتمع ككل، وفق ما قاله الباحث في مركز “عمران للدراسات” محمد العبد الله.
من “المونة” إلى “الوقية”
“لم تترك الظروف التي فرضها النزاع متسعًا للعائلات في دمشق للحفاظ على طقس المؤونة، أو حتى الشراء بكميات كبيرة، وصرنا مجبرين على شراء الحد الأدنى من احتياجاتنا”، هكذا عبّرت “دانية” عن استيائها من الظروف التي غيّرت الكثير في تفاصيل حياتها، وحدّت من قدرتها الشرائية.
وتابعت، “كنا نعاني من تعب التحضير للمؤونة، وعواقب زيارة سوق (الهال)، لكننا اليوم نشتاق إليها ليس لأنها مرتبطة بمشاعر العائلة، بل لأنها تحمل صورة من الحياة التي كانت تعطي للعائلة (رفاهية) شراء احتياجاتها”، تسخر “دانية” من تحوّل عملية شراء المواد الأساسية في المنزل إلى “رفاهية”.
وصفت “دانية” البيت الدمشقي اليوم بالبيت “الناقص” و”اللا مستقر”، معتبرة أن العادات الشرائية السابقة كانت تفرض حالة استقرار على المنزل، وتبقي أهله مطمئنين إلى توفر طعامهم ليوم آخر على الأقل.
“العائلة التي كانت تشتري الخضراوات والفواكه بالصناديق، صارت اليوم تعدّ مشترياتها بالقطعة، وصارت الأوقية هي الوحدة الشرائية الأكثر استخدامًا عوضًا عن الكيلو”، قالت السيدة موضحة أن النزاع في سوريا حوّل زيارة سوق “الهال” من طقس “روتيني” إلى حكر على طبقة معيّنة من القادرين على تحمّل تكاليف شراء كميات كبيرة تعتبرها معظم العائلات “حلمًا”.
ثقافة استهلاك
الباحث في مركز “عمران للدراسات” محمد العبد الله، قال إن الثقافة الاستهلاكية في سوريا اتسمت بالرشد ووجود الوعي الاستهلاكي لدى أغلبية أفراد المجتمع بحكم تدني مستوى الدخل عمومًا، وكانت الأسرة السورية تقوم بترتيب أولويات إنفاقها وتطويعها بما يتناسب مع مستوى دخلها وقدرتها الشرائية، ويؤمّن لها نوعًا من الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.
وأضاف العبد الله أن “تبعات النزاع في سوريا أرخت بظلالها على محددات الثقافة الاستهلاكية، وألجأت الأفراد إلى تقليص حجم مشترياتهم بشكل كبير”.
وكان الخبير التنموي والمستشار لدى اتحاد غرف الزراعة السورية أكرم عفيف، انتقد في حديث نشرته صحيفة “الوطن” المقربة من النظام السوري، في آذار 2021، عادات السوريين الاستهلاكية، مقترحًا عدة حلول للحد من الأزمات الاقتصادية التي يعيشها المواطنون في مناطق سيطرة النظام السوري.
وأوضح عفيف أن عادات السوريين الاستهلاكية “ليست سليمة”، لأنهم “يعيشون حتى الآن وكأنهم في مرحلة ما قبل الأزمة. يلجؤون إلى شراء احتياجاتهم من الطعام بالكيلو أو بالصندوق، ويخجلون من الشراء بالحبة كالأوروبيين”.
المواد الأساسية على “الهامش”
تضمّنت العادات الاستهلاكية للسوريين نقل العديد من المواد الغذائية من قائمة المتطلبات الأساسية إلى “الهامش”، بحسب ما رصدته عنب بلدي.
“نفاضل اليوم بين أنواع المواد الغذائية، ونشتري أكثر ما يمكن أن يشبعنا بأقل تكلفة ممكنة، ما حوّل سفرة منزلنا الغنية بكثير من أنواع المواد الغذائية، إلى سفرة تقتصر على منتجات وكميات محدودة”، هكذا وصف عمّار تحوّل وجبة الطعام من فائدة ومتعة، إلى محاولة للحصول على الحد الأدنى من الفائدة أو ما يكفي من الغذاء للعيش، وفق تعبيره.
كما اقتصر طعام معظم العائلات على وجبة واحدة مكتملة “لحد ما”، بينما لا تستطع العديد من العائلات تأمينها، بحسب ما قالته “دانية”، مشيرة إلى مخاوفها من أن تكون معظم العائلة عاجزة عن تأمينها في وقت قريب.
كما صار لحم الغنم “رفاهية” غالبًا ما يقتصر توفره على توزيع لحم الأضاحي من قبل السوريين في الخارج، إذ لجأت العائلات للاعتماد على الدجاج في الطهو أو الاستغناء عن اللحوم بشكل كامل، بحسب ما قالته “دانية”.
وأكّد الباحث في مركز “عمران للدراسات” محمد العبد الله، أن من الملاحظ خلال الأعوام الماضية خروج كثير من المواد الغذائية البسيطة من قائمة استهلاك العائلات بسبب ارتفاع أسعارها، بشكل بدأ يهدد الأمن الصحي والغذائي لهذه العائلات.
وتحتل سوريا المرتبة الأولى بين الدول العشر الأكثر انعدامًا للأمن الغذائي على مستوى العالم، حيث يعاني 12 مليون شخص من وصول محدود أو غير مؤكد إلى الغذاء، كما يعتمد نحو 14.6 مليون سوري على المساعدة هذا العام، بزيادة 9% على عام 2021، وزيادة بنسبة 32% على عام 2020، بحسب الموقع الرسمي لـ”الأمم المتحدة“.
عوامل غيّرت الثقافة الاستهلاكية
لعبت تبعات النزاع في سوريا دورًا كبيرًا بتغيير ثقافة الاستهلاك في البيت السوري، كما وحدت ثقافة الاستهلاك، إذ فرضت ثقافة الشراء بــ”الحد الأدنى” لدى معظم طبقات المجتمع.
“في الوقت الذي صار فيه دخلنا الشهري أقل من نصف الحد الأدنى من مصروفنا، لم تتغير عاداتنا بالشراء وحسب، بل حتى بكمية وطريقة تناول الطعام”، تحدثت “دانية” عن التغيّر الذي طرأ على حياتها بعد أن صارت معظم العائلات السورية تنفق أكثر من دخلها الشهري بنحو 50%، ما يجبرها على شراء كميات أقل من حاجتها للبقاء على قيد الحياة، وفق تقديرات منظمة “العمل ضد الجوع”.
كما يعتبر انقطاع التيار الكهربائي واحدًا من أبرز الأسباب التي منعتهم من شراء كميات كبيرة من الأغذية جرّاء عدم توفر طريقة مناسبة لتخزينها، إذ قالت “دانية”، إن فساد المواد الغذائية “كارثة” بالنسبة لمعظم السوريين اليوم، مشيرة إلى أن الكثير من الأشخاص اعتمدوا على التجفيف لتخزين الخضراوات، في حال استطاعوا تأمين ثمن شرائها بكميات كبيرة.
“لا طاولة طعام تجمع أفراد العائلة اليوم، إذ إن معظم العائلات غاب عنها فرد واحد على الأقل، أما طاولة عائلتي فغاب عنها ثلاثة أشخاص”، قال عمّار، مبررًا أحد الأسباب التي حدّت كميات الشراء في بيته بعد أن اضطر إخوته للجوء إلى تركيا.
وأكّد الباحث محمد العبد الله، أن الثقافة الاستهلاكية تأثرت بشكل أساسي بانخفاض مستويات الدخل وارتفاع الأسعار، إذ إن التغيير مرتبط بظروف اقتصادية معيّنة يمر بها المجتمع، مشيرًا إلى أن مستوى دخل الفرد يعتبر المتحكم الرئيس بالثقافة الاستهلاكية، وغالبًا ما يمتاز الأفراد ذوو الدخل المحدود بأن لديهم نمطًا استهلاكيًا يتسم بالرشد، بخلاف الأفراد من ذوي الدخل المرتفع ممن يتاح لهم العديد من الخيارات الشرائية لأي منتج.
وأرجع العبد لله تغيير الثقافة الاستهلاكية للفرد وخفض القدرة الشرائية لقرار رفع الدعم، إذ قال إن الدولة تلعب دوراً مهمًا في التأثير على النمط الاستهلاكي لدى أفراد المجتمع بطرق عدة، أبرزها مستوى الدعم المقدم من قبلها للسلع والخدمات، وهو ما يقلّص بشكل كبير من مستوى التذبذب في أسعارها.
وأضاف أن التقليص التدريجي للدعم المقدم من قبل الدولة للسلع الاستهلاكية، والانخفاض الحاد بالقدرة الشرائية، ألجأت الأفراد إلى تقليص حجم مشترياتهم بشكل كبير.
وتشهد مناطق سيطرة النظام تقنين كهرباء لا يضع النظام معيارًا ثابتًا لعدد ساعاته، لكنه يصل في أسوأ أحواله إلى ساعة وصل واحدة تتخللها عدة انقطاعات، مقابل 23 ساعة قطع خلال ساعات اليوم الواحد.
كما تشهد تزايدًا يوميًا بالأسعار وسط تضارب التبريرات بين المسؤولين والتجار، تزامنًا مع قرار رفع الدعم وأثر أزمة فيروس “كورونا المستجد” (كوفيد- 19) على الاقتصاد العالمي، إلى جانب “الغزو” الروسي لأوكرانيا الذي سبّب حالة ذعر من احتمال فقدان المواد المستوردة من البلدين المتحاربين في دول الشرق الأوسط، من بينها سوريا، وفق تقرير لصحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية.
لجين مراد _ عنب بلدي