خلال حكم “البعث” في سوريا، منذ سبعينيات القرن الماضي، لم يستجب النظام لأي تغييرات قد تفرضها عليه الظروف الإقليمية أو الدولية، ولم يغير في سلوكه الأمني أو طريقة تعاطيه مع المشكلات السياسية والاقتصادية، لا سيما المتعلقة بالأجهزة الإدارية للدولة، وأي تغييرات حصلت كانت في حدود ضمان تثبيت السلطة وسيطرتها على الدولة والمجتمع.
خلال عام انطلاق الثورة السورية في 2011، سعى النظام السوري إلى إحداث تغييرات في البنية القانونية للدولة، المرتبطة بالقضايا الأمنية والحريات، أبرزها حالة الطوارئ ووجود محكمة “أمن الدولة العليا”، التي أُحيطت بكثير من الانتقادات الحقوقية الدولية، أبرزها تقارير “هيومن رايتش ووتش” في 2009، التي وصفتها بـ”إحدى بؤر القمع في سوريا“.
في 19 من نيسان 2011، وبعد حوالي شهر واحد من بدء الاحتجاجات السلمية في مختلف المدن السورية، أقر مجلس الوزراء حينها مشروعي قانون إنهاء حالة الطوارئ في البلاد، ومرسوم إلغاء محكمة “أمن الدولة العليا”، ولكن هذه الخطوة اقترنت بتشريع جديد يلزم السوريين بالحصول على إذن حكومي للتظاهر ضد السلطة.
هذا التغيير القانوني في البنية الأمنية للنظام لم يكن من شأنه التخفيف من حجم الانتقادات الدولية حول كيفية تعامل السلطة مع المتظاهرين عبر قمع الاحتجاجات، والذي سرعان ما أخذ سيناريوهات أكثر دموية فيما بعد.
سلطة أمنية
أسس النظام السوري محكمة “أمن الدولة العليا” عام 1968، في ظل حالة الطوارئ بموجب المرسوم التشريعي رقم “47“، كي تحل محل “المحكمة العسكرية الاستثنائية”، أما حالة الطوارئ ففُرضت بموجب المرسوم التشريعي رقم “51” لعام 1962، ودخل حيّز التنفيذ في 1963.
وكانت هذه المحكمة مرتبطة بحالة الطوارئ في سوريا، التي اتسمت بطابع شامل يتنافى مع المتطلبات الأساسية التي نص عليها “العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية“، إذ يجب على أي دولة طرف في العهد أن تعلم الدول الأخرى الأطراف فورًا بالإجراءات المتخذة خلال حالات الطوارئ، والتي لا تتقيّد بأحكام “العهد”.
وفي حزيران عام 2005، افتتح رئيس النظام السوري، بشار الأسد، مؤتمر “حزب البعث” العاشر، معلنًا فيه على الملأ أنه لن يكون هناك تغيير سياسي كبير في المدى القريب، ولن يكون هناك إصلاح دستوري واسع النطاق، ولا تنازل عن دور حزب “البعث” القيادي في الدولة، ولا انفتاح حقيقي على أحزاب المعارضة.
وبالتزامن مع فترة انعقاد المؤتمر، اُعتقل أعضاء من “منتدى جمال الأتاسي”، آخر ما تبقى من الفسحة السياسية التي أتاحها “ربيع دمشق” حينها، بالإضافة إلى التوترات الأمنية التي عاشتها المناطق الكردية في سوريا، على خلفية اختفاء ومقتل عالم الدين الإسلامي الكردي الشيخ محمد معشوق الخزنوي.
وفي تلك الفترة، وعد مؤتمر “حزب البعث” بالمضي قدمًا بقانون منتظر منذ وقت طويل لتنظيم الأحزاب السياسية، لكن مسودة القانون جاءت مخيّبة للآمال، وفق دراسة صادرة عن مركز “كارنيغي للشرق الأوسط”، فهي تنص على وجوب أن تكون الأحزاب الجديدة “حليفة البعث أو يؤسسها البعث أو صديقة له”، يجب أن يكون مؤسسو الحزب فوق الـ35 عامًا، ويكون سجلهم العدلي نظيفًا، ويتم التأكد من تأييدهم لـ”ثورة 8 من آذار” البعثية.
هذه التغييرات السياسية منعت المعارضة حينها من إنشاء الأحزاب السياسية، ما أدى إلى زيادة حجم الاعتقالات، والأحكام الصادرة عن محكمة “أمن الدولة العليا”.
لا شيء يتغير
بعد إلغاء قانون الطوارئ ومحكمة “أمن الدولة العليا” بثلاثة أشهر، أصدرت حكومة النظام قانون “مكافحة الإرهاب” رقم “19“، كما صدّق الأسد في نفس الفترة، على القانون رقم “22” المؤسس لمحكمة “مكافحة الإرهاب” كي تقضي بذلك القانون.
عوّضت السلطة بذلك إلغاء محكمة “أمن الدولة العليا” من خلال تشريع قانون “مكافحة الإرهاب”، وإنشاء محكمة استثنائية خاصة بقضايا الإرهاب، في فترة ما بعد 2011، حيث عملت أجهزة الدولة وجميع وسائل الإعلام الحكومية السورية على “بروباغندا” محاربة “الإرهاب”.
وكل تشكيلة المحكمة، من قضاة الحكم وقضاة التحقيق والنيابة العامة الخاصة، يُعيّنون بمرسوم من رئيس الجمهورية وباقتراح من “مجلس القضاء الأعلى”.
ووفقًا لـ”دليل المحاكمة العادلة” الصادر عن منظمة العفو الدولية، ينبغي أن تكون الهيئة المسؤولة عن تعيين القضاة وترقيتهم وتأديبهم مستقلة عن السلطة التنفيذية، سواء في تكوينها أم في طريقة عملها، وينبغي أن تتمتع بالتعددية وبالتوازن، ويشكّل القضاة أغلبية أعضائها، وأن تكون إجراءات الانتقاء والتعيين شفافة.
وتشمل الحقوق الدنيا للمحاكمة العادلة بالنسبة للشخص المتهم، والتي يجب أن تُكفل، أن يُبلغ المتهم على وجه السرعة بطبيعة التهمة المنسوبة إليه، وأن يُعطى من الوقت والتسهيلات ما يكفي لإعداد دفاع قانوني، وأن يُتاح له الدفاع عن نفسه بشخصه أو بالاستعانة بمساعدة قانونية، وأن يُحاكَم دون تأخير، وألا يُجبَر على شهادة ضد نفسه.
وورد في تقرير “مجلس حقوق الإنسان” التابع للأمم المتحدة عن حالة حقوق الإنسان في سوريا الصادر عام 2011، أن “هناك سياسة واضحة متبعة على نطاق واسع أو بشكل منهجي، تقوم على أساس استهداف قوات الأمن الأشخاص المشتبه بمشاركتهم في المظاهرات، بهدف تخويفهم وترويعهم، كوسيلة لقمع الاحتجاجات، ويشيع استخدام التعذيب (…) للحصول على إفادات كاذبة من المحتجزين”.
وعلى الرغم من قرار مجلس الأمن رقم “2191” الصادر في 2014، والذي يلزم بإنهاء الانتهاكات الكثيرة لحقوق الإنسان في سوريا، لا يزال هذا القرار بكامله من دون تنفيذ أو فعالية.
المصدر: عنب بلدي