للسرية حسناتها وسيئاتها. من حسناتها أنها تتحرر من أي تشويش أو عرقلة محتملة، فتمضي باتجاه إنضاج التوافقات أو القرارات أو الحلول لمشكلات مستعصية. لكنها، بالمقابل، تسعى إلى العمل من وراء ظهر الرأي العام الذي من المفترض أنه المستفيد أو المتضرر مما يدور وراء الأبواب المغلقة وما يمكن أن تؤدي إليه من إحداث وقائع جديدة تفرض على المعنيين بالأمر فرضاً دون اكتراث برأيهم.ما سمي الوثيقة السرية التي نشرت صحيفة الشرق الأوسط تقريراً عنها، قبل أيام، ففقدت بذلك «سريتها» هي من نوع خريطة الطريق التي نرى خطواتها العملية، في الواقع، فصورة حراك دبلوماسي نشط حول المشكلة السورية بمشاركة لاعبين متعددين، يعكس عودة للاهتمام بها في المحافل الدولية.
وكان ملك الأردن عبد الله الثاني في طليعة هذا الحراك، منذ إطلاقه تصريحه الشهير القائل إن «نظام بشار باقٍ»! ولا يعني هذا التصريح مجرد اعتراف بأمر واقع، بقدر ما يترجم توجهاً جديداً لدى إدارة جو بايدن التي شاع، طوال الأشهر الماضية، وصف سياستها السورية بالغموض.
فقد جاء التصريح بعد اجتماع الملك الأردني مع جو بايدن، وهو ما منحه الزخم المطلوب. عملياً بدأ «الانخراط» مع النظام السوري من البوابة الاقتصادية، أي مشروع نقل الغاز المصري، عبر الأردن وسوريا إلى لبنان، مع تعهد واشنطن بعدم عرقلته بموجب قانون قيصر. بل إن البنك الدولي من المفترض أن يمول ترميم البنية التحتية لخط نقل الكهرباء، في قسمه السوري، بهدف نقله إلى لبنان. وهي خطوة لم يكن النظام أو ظهيره الروسي يحلمان بها قبل بضعة أشهر.
إذا أردنا مقاربة خريطة الطريق المسماة بالوثيقة السرية، والحراك الدبلوماسي المنطلق منها، بنوايا حسنة، يمكننا القول إن الوضع الاقتصادي ـ الاجتماعي الكارثي في «سوريا الأسد» يراد استثماره دولياً على طريقة إمساك النظام من اليد التي توجعه، لإرغامه على الاستجابة لتسوية سياسية تنهي الصراع وتعيد الاستقرار. تسوية بموجب القرار 2254 الصادر عن الأمم المتحدة في عام 2015 وظل النظام يرفض موجباته طوال السنوات الست الماضية. عبارة «الأسد باقٍ» في هذا الإطار وظيفتها طمأنة بشار إلى أن تحريك التسوية السياسية مجدداً لا يستهدف الإطاحة به، من أجل «استدراجه» للقبول بالانخراط السياسي.
يقوم هذا الاستدراج على مبدأ «خطوة مقابل خطوة» الذي سبق للمفوض الأممي الخاص بسوريا أن طرحه قبل شهور. من المحتمل أن هذه الفكرة التي عادت اليوم إلى الظهور مجدداً في ثوب «الوثيقة السرية» تفترض في نظام بشار صفات غير موجودة فيه، كاهتمامه بمصير السوريين تحت قبضته الذين بات 90 في المئة منهم يعيشون تحت خط الفقر، أو اكتراثه بمقتل المزيد من جنوده وضباطه في معارك متجددة في منطقة إدلب، أو تشوقه للانفتاح على العالم أو لعودة نظامه إلى جامعة الدول العربية.
لا شك أنه قد يرغب بحدوث تلك المعجزات وغيرها، بشرط ألا يقدم مقابلها أي ثمن، أي أن يحدث كل ذلك بشروطه. أما إذا عرض عليه مثلاً التخفيف عن الوضع الكارثي مقابل مساهمته جدياً في أعمال اللجنة الدستورية، والالتزام بإقرار النص الذي قد تتوافق عليه الأطراف الثلاثة المشاركة، فلن يناسبه ذلك، وسيسعى إلى إضاعة المزيد من الوقت في أعمال اللجنة الدستورية لضمان عدم وصولها إلى صياغة مسودة دستور.
ويكون قد حصل على مكسب مقابل لا شيء، وسيراهن دائماً، عن حق، أن المجتمع الدولي أو الدول العربية ستقدم له مزيداً من التنازلات مقابل وعود كاذبة منه.لطالما نجح هذا التكتيك في التعاملات مع الدول الأخرى، فأخذ النظام ولم يعطِ. أضف إلى ذلك أنه تكتيك روسي أيضاً، وإن اختلفت التفاصيل. فلطالما أعلنت روسيا عدم تمسكها بالأسد، وراهنت على الزمن لفرضه كأمر واقع على السوريين وعلى الدول المعنية بالمشكلة السورية. وكشف الزمن صحة هذه المراهنة، فانتقلت معظم الدول من موقف ضرورة تغيير النظام إلى بقائه مع إضافة «تغيير سلوكه» من باب رفع الحرج.
لا يعقل أن قادة الدول الذين يسعون نحو الانفتاح على النظام على أمل استدراجه لتسوية سياسية تنهي الصراع الذي أصبح عبئاً على العالم، لا يعرفون ما هو عليه، أو مخدوعين بأوهام بشأن «تغيير سلوكه». فقد خبروه واختبروه طوال عقدين، إذا لم نحسب العقود الثلاثة السابقة على انتقال السلطة من حافظ إلى بشار. يعرفون سجله الأسود في إرسال الجهاديين إلى العراق واغتيال رجال السياسة والفكر في لبنان وتنظيم هجمات غوغائية على سفارات دول غربية في دمشق وابتزازه لخصومه بالإرهاب… كل ذلك من غير أن نذكر سجله الداخلي في سوريا الذي قد لا يهم الدول الأخرى.
حسناً، لنفترض جدلاً أن خطة «الخطوة مقابل خطوة» أثمرت تغييراً في سلوك النظام. فهل هذا يعفي المجتمع الدولي من وصمة التعامل مع شخص بحقه اتهامات موثقة بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية؟
بكر صدقي _ القدس العربي