دفعت ظروف الحرب المسنة الستينية عبسية الجابر إلى خارج قريتها ومنطقتها، دون أحد من عائلتها، لتجد نفسها تصارع الحياة بمفردها مع زوج عجوز لا يقوى على الحركة في مخيم بائس على أطراف مدينة إدلب شمال غربي سوريا، وطال الفقر والعوز وقلة الرعاية والخدمات.
وبينما تجلس على أحد طرقات إدلب في الصباح الباكر لـ”تستجدي” عطف المارين الذين يقدمون لها بعض قطع نقدية أو طعام، قالت السيدة لعنب بلدي، إنها اختارت التسول مرغمة لتأمين قوت يومها لا أكثر، بعد أن ضاقت بها وبزوجها السبل وانعدمت المساعدات.
وأضافت عبسية أنها خرجت مع زوجها من قريتهما مرغمَين هربًا من الموت بطائرات النظام وحممه، ليواجها موتًا من نوع آخر، وهو الفقر والحاجة والعوز.
تابعت، “لم يبقَ لنا من الأبناء من يعيننا”، فقد باتت وزوجها وحيدَين منسيَّين في خيمة لا تقي حر صيف أو برد شتاء.
اشتكت عبسية عدم وجود أي مساعدات خاصة بالمسنين في المخيمات العشوائية، فهي تعاني أمراض القلب والضغط والسكري، ويعاني زوجها آلام المفاصل والعظام والعمود الفقري التي تمنعه حتى من الحركة، بينما لا طاقة لها على شراء الأدوية أو مراجعة الأطباء.
خلّفت الحرب السورية آفات اجتماعية عدة، منها الفقر والتسول، وطالت الفئات العمرية كافة من الذكور والإناث، وباتوا يبحثون عما يسد رمق عوائلهم الفقيرة، ليبقى مشهد المسنات المتسولات الأكثر إيلامًا، إذ حرم النزوح الكثير من الأسر من بيوتها وأرزاقها ومصادر دخلها الأساسي، واضطرت للعيش في مخيمات وسط أوضاع مأساوية أو منازل غير مجهزة أو أشباه منازل مهدمة ومهددة بالسقوط في أي لحظة.
فعلتها الظروف
غالبًا ما تجد المسنات المتسولات في إدلب مكانًا ثابتًا لهن في أحد الشوارع أو الحدائق أو الأسواق، لطلب العون من المارة، نظرًا إلى عدم قدرتهن على التجول وقطع المسافات في البحث عن متبرعين ومتعاطفين، وهو ما أكدته المسنة فطوم الأحمد، السبعينية التي أنهكها المرض والفقر.
فطوم نازحة من بلدة حيش ومقيمة في مخيمات معرة مصرين، وهي ممن دفعتهن الحاجة لامتهان التسول، لجمع بعض المال بغية تغطية نفقاتهن، وكثيرًا ما تجلس طوال يومها دون أن تحظى بمساعدة من أحدهم، في حين تجد مساعدات خجولة في أيام أخرى، بحسب ما قالته لعنب بلدي.
“عندما كنا في قريتنا، كانت لدينا قطعة أرض نزرعها ونعيش من مردودها، وكان أهل الخير ممن يعرفون وضعنا يتصدقون علينا”، وعن وضعها بعد النزوح قالت فطوم، “قد نموت داخل الخيمة من دون أن يطرق أحد بابنا أو يتفقد أحوالنا”.
ظاهرة تتطلّب التكافل
المرشدة الاجتماعية أسماء الحلبي قالت لعنب بلدي، إن التسول ظاهرة اجتماعية خطيرة انتشرت في إدلب بشكل كبير، حتى أصبحت تهدد المجتمع بأسره، وتنذر بالعديد من العواقب أهمها “الاتكالية واحتقار الذات”.
وأرجعت أسباب الظاهرة إلى الكثافة السكانية الناجمة عن النزوح المتكرر، وما رافقه من فقر وبطالة وأوضاع اقتصادية ومعيشية صعبة، في ظل غياب المساعدة من الجهات المسؤولة في المنطقة.
واعتبرت الحلبي أن الحد من الظاهرة ممكن من خلال تكافل منظمات المجتمع المدني وسعيها لتأمين فرص عمل ملائمة وكفالات للنساء، وخصوصًا المسنات منهن، اللواتي لا يقوين على العمل وبذل الجهد، وضرورة تأمين كفالات مالية شهرية لهن وتحسين أحوالهن المعيشية، وإنشاء دور عديدة لرعاية المسنات في إدلب وريفها.
وبحسب المختصة الاجتماعية، تعد محاربة التسول مسؤولية أممية، فلا بد من تدخل المنظمات الدولية لإعداد برامج متكاملة للتخلص من التسول، ولا سيما أن المنظمات المحلية “بات همها الوحيد العمل وفقًا لسياسات وأجندة تخدم مصالحها بغض النظر عن المشكلات والعقبات التي تواجه السكان في إدلب، وخاصة فئة المسنات”، بحسب تعبيرها.
وأفاد تقرير للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، في آذار الماضي، أن أكثر من 6.9 مليون شخص في عداد النازحين داخل سوريا، إضافة إلى 14.6 مليون شخص يحتاجون إلى مساعدة إنسانية وغيرها من أشكال المساعدة.
وبحسب التقرير، يحتاج حوالي 5.9 مليون شخص إلى المساعدة من أجل تأمين مسكن آمن، ولا يزال الكثيرون يواجهون تحديات في الوصول إلى الخدمات الأساسية مثل التعليم والرعاية الصحية.
هدى الكليب _ عنب بلدي