الصور الصادمة التي شاهدها العالم لآلاف السوريين وهم يبحثون عن ذويهم المعتقلين والمختفين في سجن صيدنايا، بعد سقوط حكم الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد، لم تكن مفاجأة جديدة، إنما حصيلة 13 عامًا من الإخفاء قسرًا والقتل الممنهج للمعتقلين، إذ اضطرت عائلات المفقودين، طوال سنوات سابقة، لطرق أبواب الأفرع الأمنية ودفع مبالغ طائلة لمعرفة مصير ذويهم.
تلك العائلات فقدت أبناءها في التظاهرات السلمية أو على الحواجز العسكرية التابعة للجيش والأجهزة الأمنية، وممن اعتقلوا في المداهمات منذ عام 2011.
بعد عام 2011 ارتفع عدد الوفيات داخل المعتقلات، ووصل عدد المعتقلين 215 ألفًا، منهم 85 ألفًا في عداد المختفين قسرًا حتى نهاية عام 2013. في العام ذاته وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان مقتل 4058 تحت التعذيب، ووثق الشاهد قيصر أيضًا 11 ألف جثة عبر 53275 صورة، بحسب تقرير هيومان رايتس ووتش.
وتشير تقديرات اللجنة الدولية لشؤون المفقودين إلى أن عدد المفقودين في سوريا يقارب 200 ألف نتيجة الاعتقال السري والإخفاء القسري، ورغم كشف السلطات السورية التابعة لنظام الرئيس السوري المخلوع عن وفاة آلاف المعتقلين والمفقودين وإرسال بياناتهم إلى السجل المدني، إلا أن هذه المعلومات ما تزال غير موثوقة، بعد الإفراج عن معتقلين تسلّم ذووهم شهادة وفاتهم، أو شخصيات معارضة أصدر السجل المدني شهادات وفاة لها مؤخرًا، وهي ما تزال على قيد الحياة، كحالة الصحفي سامر الأحمد الذي اعتقل بين عامي 2013 و2014، ويقيم في مدينة إسطنبول التركية.
تعرّف المؤسسة الدولية للكشف عن مصير المفقودين والمختفين قسرًا في سوريا، وهي كيان مقره جنيف تابع للأمم المتحدة أنشأته الجمعيّة العامّة في 29 حزيران 2023، استجابة لنداءات من أسر الآلاف من الأشخاص المفقودين في سوريا لاتخاذ إجراءات لتحديد مصيرهم ومكان وجودهم، بأن المفقود هو كل شخص انقطعت أخباره ولم يحصل ذووه على معلومات مؤكدة عن طريق رؤية الجثة أو دفنها أو تسلّم رفاته، حتى وإن تلقوا إشعارات الوفاة من السلطات القائمة أو من أصدقاء وزملاء في المعتقلات. |
الشبكة السورية لحقوق الإنسان، وهي منظمة حقوقية، تعرّف نفسها بأنها مستقلة، وترصد وتوثق انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا. وثقت في تقريرها الصادر منتصف شهر 6 لعام 2024، مسؤولية النظام السوري عن مقتل 15098، بينهم 190 طفلاً و95 سيدة. يمثل هذا العدد قرابة 98% من حالات القتل التي وثقتها الشبكة البالغ عددها 15383. كما وثقت 72 أسلوبًا للتعذيب مارسها النظام السوري ضد المعتقلين.
شهادات 13 مصدرًا من ذوي المفقودين
“وصلت لاستلام جثة زوجي من مستشفى تشرين على بعد عدة كيلو مترات من الفرع، طلبت رؤيته أو الحصول على جثته، لكنهم طردوني وأخبروني أنهم لا يسلمون جثث الإرهابيين”، تقول علا، وهي زوجة أحد المعتقلين ممن قضوا تحت التعذيب في فرع الشرطة العسكرية بحي القابون في العاصمة دمشق.
قتل زوج علا، وهو موظف حكومي، تحت التعذيب متنقلًا بين فرعي الأمن العسكري والشرطة العسكرية، ومنها أرسل قتيلًا تحت التعذيب إلى مستشفى تشرين العسكري، ليجري إبلاغها بالقدم لاستلام الجثة.
ألقى الأمن العسكري القبض على زوج علا وولدها البكر منتصف عام 2013 في مساكن محطة تشرين الحرارية. تقع المحطة بالقرب من حران العواميد على بعد 50 كيلومترا عن دمشق، في مقر عمله.
ثلاثة أشهر من البحث بين فروع الأمن حتى وصلت إلى الشرطة العسكرية. الوقت فات، فهذه الأشهر القليلة كانت كافية ليموت زوجها تحت التعذيب. تسلمت علا من المستشفى بطاقة زوجها الشخصية وشهادة وفاة تبين أن سبب الوفاة توقف القلب والتنفس، كان ذلك مطلع شهر تشرين الأول 2013.
ثلاثة عشر شخصًا من ذوي المفقودين حصلت سيريا انديكيتور على شهادتهم تسلّموا شهادات وفاة ذويهم الذين اعتقلوا بين عامي 2012 و2015.
أجمع ذوو المفقودين أن شهادة الوفاة صدرت بعد مدة من الاعتقال لا تزيد عن 3 أشهر فقط من تاريخ الاختفاء.
يقول المحامي عبد الرحمن الشيخ علي، وهو عضو مؤسس في تجمع رقيب للحقوقيين في الشمال السوري، إن إفراط النظام في القتل والتعذيب خلال السنين الأولى من عمر الثورة السورية كان هدفه إرهاب المدنيين، إذ عمدت الحواجز العسكرية لقتل المعتقلين ورمي جثثهم على أطراف الطرقات قرب الحواجز، وهذه الممارسات كانت تجري في المعتقلات أيضًا.
السبب الرئيس للموت هو التعذيب أو القتل المباشر. يتقاطع ما ذكره “الشيخ علي” مع تقرير “لو تكلم الموتى” الصادر عن هيومان رايتس ووتش. ويوضح التقرير أن التعذيب في المعتقلات كان السبب الرئيسي للموت.
الأماكن المسؤولة عن القتل
بحسب تقارير مؤسسات حقوقية وروابط ناجين من الاعتقال، يمكن تقسيم الأماكن المسؤولة عن قتل المعتقلين إلى 3 أقسام رئيسية.
- فروع الأمن المنتشرة في المحافظات، ونشرت رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا أسماء 56 فرعًا في المحافظات السورية من خلال شهادات وثقتها مع ناجين من الاعتقال مروا بتلك الأفرع ، وكانوا شهودًا على عمليات قتل وتعذيب. تحولت هذه الأفرع لمسالخ بشرية بهدف انتزاع الاعترافات من معارضي السلطة.
تتبع الأفرع للأجهزة الأمنية الرئيسية في سوريا وهي، شعبة الأمن السياسي، شعبة الاستخبارات العسكرية، إدارة المخابرات العامة (أمن الدولة)، إدارة المخابرات الجوية.
- السجون: توجد في سوريا 4 سجون رئيسية، هي السجن المركزي في عدرا، والمزة العسكري، وسجن صيدنايا، وسجن تدمر، بالإضافة للسجون المركزية في المحافظات، وسجون سرية في القطع العسكرية والمطارات.
- المستشفيات العسكرية، وأبرزها مستشفى حرستا العسكري الذي شهد مقتل المعتقل السابق مازن حماة بعد أن استدرجه النظام السوري لدمشق، وقتل قبل أسبوع من دخول قوات المعارضة إلى مدينة دمشق، ومستشفى الشهيد يوسف العظمة في منطقة المزة (601)، في هذا المستشفى التقط الشاهد قيصر معظم صور المعتقلين التي سربت إلى وسائل الإعلام العالمية. مستشفى تشرين العسكري في العاصمة دمشق، وهو المصدر الأول لشهادات الوفاة الصادرة لمعتقلين من مختلف فروع الأمن، ومستشفى حلب العسكري، ومستشفى حمص العسكري ومستشفى الصنمين بدرعا.
“تشرين العسكري”.. الثقب الأسود
افتتح مستشفى تشرين العسكري في الجهة الشمالية الشرقية للعاصمة السورية دمشق كأكبر تجمع طبي في سوريا سنة 1982، العام ذاته ارتبط بالذاكرة السوداء للسوريين بسبب عمليات القتل التي ارتكبها حافظ الأسد (والد الرئيس المخلوع بشار الأسد) في حماه وحلب.
أصبح المستشفى بعد إنشائه أفضل المراكز التخصصية في سوريا، بفضل أقسامه وشعبه الطبية التخصصية البالغ عددها 39، وأجهزته الطبية الحديثة، وكادر يضم أكثر من 1600 من أطباء وممرضين وإداريين وحراس.
تقدر مساحة المستشفى بقرابة 15 هكتارًا، بحسب موقع إدارة الخدمات الطبية، تشرف الإدارة على عمله وعمل المستشفيات العسكرية في المحافظات الكبرى ومستوصفات المواقع في جميع المحافظات السورية.
مع بدء الحراك الشعبي في سوريا عام 2011 واعتقال القوات الحكومية آلافًا من المعارضين المحتجين، تحول الصرح الطبي الأول في سوريا إلى ثقب أسود تمر عبره معظم جثث المعتقلين في سجن صيدنايا والأفرع الأمنية والشرطة العسكرية. ويذكر تقرير “دفنوهم بصمت”، الصادر عن رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا أن معظم جثث المعتقلين تمر عبر نظارة المستشفى التابعة للشرطة العسكرية، ومنها تنقل إلى المقابر الجماعية بعد توثيق الجثث وإصدار شهادات وفاة لكل جثة.
الطريق إلى الموت
قبل تحويل المعتقلين من سجونهم إلى مستشفى تشرين العسكري، لا بد أن يكون المعتقل في حالة النزع الأخير، كانت حالات المعتقلين ممن يُحولون إلى المستشفيات قليلة وفي غالبها كان المعقل على وشك الموت.
رياض أولار، وهو تركي الأصل ورئيس رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا، أمضى 21 عاماً متنقلا بين سجني صيدنايا وعدرا، قال لسيريا انديكيتور، إن السبب الرئيس لوفاة جميع المعتقلين هو التعذيب والضرب المبرح، إضافًة لأسباب صحية، أحد أسباب الموت أيضاً السجانون. واختار المعتقلون للسجانين أسماء بحسب ممارساتهم مع المعتقلين.
الهرمية.. أطباء في خدمة دولة التعذيب
توصلت سيريا انديكيتور لشبكة علاقات هرمية من شعبة الطبابة الشرعية في مستشفى تشرين إلى رأس السلطة في سوريا، تبدأ السلسلة من شعبة الطبابة الشرعية بمستشفى تشرين العسكري ورئيسها العميد الطبيب أكرم الشعار منذ عام 2011. وهو رئيس هيئة الطب الشرعي في سوريا.
أكرم الشعار كان الطبيب الشرعي الذي كشف على جثة الطفل حمزة الخطيب. قتل الخطيب تحت التعذيب على أيدي أجهزة الأمن السورية منتصف عام 2011، إثر احتجاجات درعا، ونفى الشعار حينها أن يكون الخطيب قد تعرض للتعذيب على أيدي أجهزة الأمن.
عُيّن الشعار مباشرة من مدير المستشفى حينها العميد الطبيب فواز خيرو آت، الذي ينحدر من قرية بستان الباشا، مسقط رأس والدة الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد، قرب القرداحة.
اللواء عمار سليمان المتحكم بإدارة الخدمات الطبية هو المسؤول الأول عن عمليات القتل الجماعي، بحسب الشاهد عبد المجيد الذي عمل برتبة مساعد في مستشفى تشرين لأكثر من 12 عامًا في شعبة القلبية.
تجمع سليمان ببشار الأسد علاقة صداقة وزمالة في دراسة الطب، وينتميان لمدينة القرداحة بريف اللاذقية، وترأس سليمان إدارة الخدمات الطبية عام 2017.
قاطعت سيريا انديكيتور الشهادة مع بحث فرنسي حمل عنوان الأطباء السوريون بين التطور الاجتماعي وخدمة دولة التعذيب، ونشر في 23 أيار 2024، وما نشره موقع تلفزيون سوريا، في شباط 2022.
بعد تعيين أكرم الشعار رئيسًا لقسم الطبابة الشرعية، جرت عدة تعديلات في الهيكل الإداري للطبابة الشرعية في مستشفى تشرين العسكري. فقبل العام 2011 كان كادر قسم الطب الشرعي يضم رئيس القسم، وهو العميد عبد المجيد منصور، بالإضافة للممرضين وقسم الديوان.
ويقول الشاهد عبد المجيد، أصبحت شعبة الطبابة الشرعية في المستشفى بعد 2011 تضم 4 أطباء ضباط برئاسة العميد الشعار من مدينة سلمية، ونائبه العميد اسماعيل كيوان من مدينة السويداء، والمقدم أيمن خلو والملازم منقذ شموط، و7 صف ضباط ممرضين وإداريين، و4 مجندين، وديوان للطبابة الشرعية و14 سجلًا لتوثيق أعمال الشعبة.
التغيير الآخر بعد 2011 كان أمنيًا، وأصبح المستشفى يضم 3 مقرات للمخابرات، مفرزة الباب الرئيسي، مهمتها التأكد من هوية كل من يدخل المستشفى وتأمين الحماية الداخلية، ومفرزة الشرطة العسكرية المسؤولة عن التحقيق مع المعتقلين وتحميل جثثهم ونقلها، وألحقت مفرزة للمخابرات العسكرية عام 2012 في الطابق الثامن، مهمتها ضمان سرية ما يجري داخل أروقة المستشفى، والإشراف على عمليات نقل الجثث إلى المقابر الجماعية، إضافًة للتحقيق مع ذوي المعتقلين.
كان يرأس المفرزة، بحسب عبد المجيد، ضابط مخابرات برتبة رائد، وللمفرزة صلاحيات واسعة، ووضع الطابق الثامن والأخير من المستشفى كاملًا تحت تصرف هذه المفرزة فقط، ولا يُسمح لأحد من الموظفين المدنيين والعسكريين بدخول هذا الطابق، وخُصص فقط عناصر المخابرات العسكرية أو ذوي المعتقلين ممن يجري التحقيق معهم.
المفرزة.. المحطة الأولى
أنشئت المفرزة عام 2011 داخل حرم المستشفى، في مبنى ملاصق له من الجهة الشرقية مساحته 150 مترًا مربعًا، بهدف استلام جثث المعتقلين وتجميعها وترحيلها بعد توثيقها إلى المقابر الجماعية.
تضم المفرزة غرفتين لرئيسها وعناصره، وغرفتي توقيف المعتقلين، مساحة كل منها 15 مترًا مربعًا. وتوضع جثث المعتقلين بعد موتهم عند الباب الخارجي للنظارة.
بقي الشاهد عبد المجيد موظفا في المستشفى حتى نهاية عام 2014. حين يحل الليل تبدأ الحركة في مفرزة الشرطة العسكرية، يطفئ أنوار غرفته ويراقب بصمت ما يجري. عربات تحمل جثثًا مكومة، بدءًا من الساعة الثانية عشرة ليلا وحتى الفجر، لا يكون النقل بشكل يومي، يمكن أن يكون أسبوعيًا أو مرتين في الأسبوع الواحد حين يكثر عدد الجثث وتملأ رائحتها أرجاء المستشفى.
في الأعوام بين 2012 و2015 كان عدد الجثث التي توضع أمام مفرزة الشرطة العسكرية يقارب 50 أسبوعيًا، تنقل خارج المستشفى بعربة صحية أو عربة من نوع هوندا، يعتمد ذلك على عدد الجثث الملقاة أمام المفرزة. وفي عام 2013، وضع حاجز من القرميد ليغطي ما يجري داخل المفرزة لكن الحركة بقيت ذاتها ليلًا.
شهادة الوفاة.. قوننة الموت
يعرّف الطبيب الشرعي وعميد جامعة حلب الشمال، محمد الزعبي، الفحص التشريحي بعد الموت بأنه فحص كامل للجسم بهدف تحديد سبب الوفاة، أو لتحديد درجة الحالة المرضية التي أدت للوفاة، ويجرى تشريح الجثة بفحص سوائل وأنسجة الجسم، كان هذا الإجراء معمولًا به قبل عام 2011 في السجون السورية، ويُعرف ما إذا كان الموت ناجمًا عن حادث أو جريمة قتل أو انتحار أو حدث الموت بشكل طبيعي.
وفي إطار بحث سيريا انديكيتور لربط سلسلة قوننة القتل، التقى معد التحقيق بإبراهيم المقيم في فرنسا قرب باريس، انشق الشاهد عن الخدمة الإلزامية في مستشفى تشرين العسكري.
كان إبراهيم عنصرًا مجندًا، دوره حمل الجثث المتفسخة الملقاة على الأرض بعد توثيقها، ولجأ إلى فرنسا بعد أن قدم شهادته لجهات حقوقية عن مشاهداته.
“يحضر طبيب شرعي وقاض ومحقق من قسم الشرطة العسكرية لمعاينة الجثة، ويحضر مصور لالتقاط صور للجثة بوضعيات مختلفة ويلتقط العلامات المميزة، يتم التصوير مع وضع ورقة على الجثة تحمل 3 أرقام، رقم الفرع، ورقم المعتقل داخل الفرع، ورقم فحص الطبيب الشرعي”، يقول إبراهيم.
اضطر إبراهيم لحمل الجثث المتفسخة في سيارات عسكرية وتكديسها تمهيدًا لنقلها خارج المستشفى إلى المقابر الجماعية.
واحدة من الصور التي حصلت عليها سيريا انديكيتور، تعود لمحمد مصطفى سحلول من بلدة أورم الجوز في جبل الزاوية. تظهر على جثة سحلول الأرقام ذاتها.
في أورم الجوز وسط إدلب تحدثت أسمهان بكور عن ظروف اختفاء زوجها. اعتقل أبو مصطفى كما كان يكنى في قريته على حاجز مدخل مدينة اللاذقية من جهة جسر الشغور، واقتيد إلى فرع الأمن السياسي بتاريخ 21 حزيران 2013، ثم إلى الفرع 215 في دمشق، وقتل تحت التعذيب في شهر آب من العام ذاته، بعد شهرين من اعتقاله.
هذه الإجراءات تتبعها خطوات لاحقة، بحسب دياب سرية، مؤسس “رابطة معتقلي سجن صيدنايا”، فالمحقق والقاضي العسكري والطبيب الشرعي يكتبون تقارير منفصلة بحالة الوفاة، ويجهز المحقق الإضبارة كاملةً مع تقرير الطبيب الشرعي والصور وشهادة الوفاة الصادرة عن مستشفى تشرين العسكري، وينظمها ويختمها ويرسلها إلى القاضي العسكري الذي حضر واقعة التوثيق، مرفقة بخلاصة اسم الموقوف وجرمه ومكان الوفاة وأسبابها، ويضم القاضي العسكري تقريره ويرسلها إلى قسم السجون في الشرطة العسكرية، ومنها ترسل نسخ إلى هيئة الأركان وجهاز المخابرات الذي يتبع له الفرع وسجل الأحوال المدنية.
تزوير مكان الوفاة
كان لعملية نقل الجثث إلى المستشفيات العسكرية وتصويرها على أرض فارغة أو في مستودعات كبيرة هدف يرتبط بتغيير مكان الوفاة، ورفع المسؤولية عن الأجهزة الأمنية ومراكز الاعتقال، وعمد النظام السوري لإخلاء مسؤولية الأجهزة الأمنية من ناحية توثيق الطبابة الشرعية للجثث في مكان مختلف عن أماكن القتل والتعذيب، بحسب المستشار القانوني علي الزير الذي يعمل مع روابط من ذوي المفقودين في شمال سوريا.
لاحقا، أصدر الرئيس المخلوع، بشار الأسد، القانون رقم 16 لعام 2022، لتجريم التعذيب، بعد أن قضى آلاف المعتقلين تعذيبًا في سجونه، وبعد 18 عامًا من انضمام سوريا لاتفاقية مناهضة التعذيب وأكثر من 35 سنة من دخول الاتفاقية حيّز التنفيذ.
حينها، تحفظت سوريا على المادة 20 من الاتفاقية، والتي تنص على إنشاء “لجنة مناهضة التعذيب” كلجنة منبثقة عن الاتفاقية، ويكون اختصاصها الرئيس مراقبة تنفيذ الدول الأطراف التزاماتها وفقًا لهذه الاتفاقية وتقديم تقارير دورية بخصوص هذه المراقبة.
فيما تضمن دليل منع ممارسات تنفيذ أحكام الإعدام خارج نطاق القانون والإعدام التعسفي والإعدام دون محاكمة والتحقيق في تلك الممارسات الصادر عن الأمم المتحدة تعليمات تخص مكان الوفاة، إذ يجب أن يكون للمشرحين والمحققين الطبيين حق الوصول إلى مكان الجثة، والتأكد من عدم حدوث أي تغيير فيها، وفي حال رفض السماح بالوصول إلى مكان الوفاة أو حدوث تغيير في الجثة أو الامتناع عن الإدلاء بمعلومات، أن يذكر ذلك في تقرير المشرح.
الموت مرتين
أصدر مستشفى تشرين العسكري شهادات الوفاة وسلمها لذوي قتلى التعذيب ضمن سلسلة إدارية محددة، كانت تعطى لمن يطلبها مباشرة من ديوان الطبابة الشرعية، يوضع اسم الطبيب المناوب الذي عاين الجثة على الوثيقة، ويضاف اسم شاهدين من عناصر الطبابة الشرعية، وذلك تحت إشراف مفرزة المخابرات العسكرية.
كذلك وضع اسم علي الحمداوي، كشاهد على 22 شهادة وفاة 22 عاينتها سيريا انديكيتور.
ينحدر الحمداوي من قرية الموعة الموالية للنظام بريف حماه الغربي التابعة لناحية حربنفسه، وهو خريج مدرسة التمريض العسكرية.
عيّن الحمداوي ضمن الكادر الإداري الجديد للطباعة الشرعية عام 2011، وعمل على تعذيب المعتقلين والمرضى انتقامًا لأخيه أحمد، الذي قتل عام 2013 على جبهة تل الكردي في دوما، بحسب شهادة المساعد عبد المجيد.
“كان عناصر المفرزة يضربون المعتقل على رأسه بأخمص البارودة، أو على مناطق مميتة، وبعد موت المريض يخرجون الجثث خارج النظارة لتتجمع، ومن ثم تحمّل في السيارات المخصصة لنقلها إلى المقابر الجماعية”، يقول المساعد عبد المجيد، الذي عمل في مستشفى تشرين العسكري لأكثر من 12 عامًا في إحدى الشعب التخصصية.
وهط القلب الدوراني.. طمس الجريمة
يظهر في شهادات وفاة صادرة عن مستشفى تشرين العسكري وعن السجل المدني، حصلنا عليها من الشهود ومن مصادر خاصة، أن سبب الوفاة المباشر توقف القلب والتنفس، ويرجع السبب غير المباشر للوفاة إلى الوهط القلبي الدوراني.
اللافت في الأمر أن التشخيص ذاته كتب على شهادات وفاة الأطفال، ومنهم خالد العمر المولود عام 1995، وأخوه أحمد 1997، الأخوان اعتقلا من منزلهما في جبل الزاوية بتاريخ 24 حزيران 2012.
تسلّم والدهما شهادة وفاة طفله الأكبر خالد، وهو دون 18 عاما، فيما لم يعرف مصير ولده الأصغر، كما روى لسيريا انديكتور.
وتظهر شهادة وفاة خالد أن سبب الوفاة هو توقف القلب والتنفس نتيجة الوهط القلبي الدوراني.
في العاصمة الفرنسية باريس، أصبح الدكتور بشار مسؤولا عن قسم الجراحة القلبية في أحد مستشفياتها، بعد أن فر هاربًا من سوريا إثر اعتقاله لمدة 3 أعوام.
يقول الطبيب، إن الاختصاصيين لا يعتبرون وهط القلب الدوراني سببًا مباشرًا أو غير مباشر للوفاة، بل نتيجًة وعارضًا من أعراضها، ويحدث تاليًا لحالة مرضية مفضية إلى الوفاة.
وهط القلب الدوراني هو تشخيص توقف القلب الذي يؤدي إلى انعدام الضغط ودوران الدم في الجسم نتيجة عامل خارجي.
الطبيب أكد أنه وخلال وجوده في المعتقل، شهد عدة حالات وفاة لمعتقلين تحت التعذيب، وأن إدارات المستشفيات توجّه الأطباء لتقديم هذا التشخيص لطمس الجريمة، مضيفًا، إن أهم عناصر تقرير الطبيب الشرعي ذكر الحالة الأصلية التي أدت لتوقف القلب والدوران وليس النتيجة، لكن في حالة المعتقلين السوريين، يجبر النظام السوري الأطباء الشرعيين على كتابة هذا السبب لإغفال السبب الرئيسي وهو التعذيب.
وأيد المحامي عبد الرحمن الشيخ علي ما ذكره الطبيب في رغبة النظام في التهرب من ذكر الأسباب الحقيقية والمباشرة المؤدية للوفاة من مصدر رسمي حكومي، خشية المساءلة أمام القضاء في المستقبل، أو استخدام هذه الوثائق كإثبات ضد النظام والأفرع والمؤسسات الطبية التابعة له بارتكاب الجريمة.
شهادة الوفاة تفضح الجريمة
حتى عام 2017، أصدر مستشفى تشرين العسكري شهادات الوفاة، وسلمها بشكل مباشر لذوي المفقودين والمعتقلين ممن وجهتهم الأفرع الأمنية والسجون والشرطة العسكرية بالسؤال عن ذويهم في مستشفى تشرين العسكري، ومنذ عام 2018، توقف المستشفى عن إصدار شهادات الوفاة، وبدأت السجلات المدنية بإبلاغ ذوي المعتقلين والمفقودين بحالات الوفاة لذويهم دون تحديد الجهة المسؤولة.
تحويل إصدار شهادات الوفاة من المستشفيات العسكرية إلى السجل المدني، جاء بسبب رغبة النظام في تشتيت كل أنواع المطالب الحقوقية بمعرفة مصير المفقودين، وبهدف التهرب من مسؤوليته تسليم جثثهم لذويهم، خصوصًا بعد المجازر الجماعية التي ارتكبها بحق الكثير من المعتقلين والمفقودين في الأفرع الأمنية والمعتقلات، بحسب المحامي عبد الرحمن الشيخ علي، مؤسس “تجمع رقيب” للمحامين في الشمال السوري.
وتؤكد شهادات الوفاة، وفقاً للمستشار القانوني علي الزير، علم الحكومة السورية بتاريخ الوفاة، وتاريخ اختفاء الأشخاص ومسؤوليتها عن اعتقالهم وإخفائهم. مضيفاً، إن تبعات تغير حالات الأشخاص في السجل المدني من أحياء إلى أموات بناء على شهادات الوفاة الصادرة من مستشفى تشرين العسكري، تكشف تورط الأجهزة الأمنية والقيادات فيه في هذه الوفيات، حيث قاموا بالإجراءات الورقية، وإصدار التعليمات لتغيير حالات الأشخاص في السجلات المدنية.
الموتى، ومعظمهم من المختفين قسرًا، كانوا تحت قبضة الحكومة السورية وقت الوفاة، بحيث توفرت لديها كافة المعلومات لتأكيد حالة الوفاة والبدء بإجراءات تسجيلها بشكل رسمي لدى دوائر الأحوال المدنية، بحسب المحامي الزير.
رفض النظام السوري تقديم أية معلومات حول مصير أو مكان وجود المختفين، والوقت الطويل بين تاريخ الوفاة وتاريخ صدور الإشعارات، يظهر سعي سلطات النظام وأجهزته لإخفاء معالم الجرائم، أضف إلى المعلومات المزيفة أو غير الكافية وتغيير الحالة في السجل المدني.
ويدل عدد الإشعارات، وفق الزير، على اتساع نطاق القضية، وتكرر أنماط وممارسات على نطاق واسع وممنهج ضد مدنيين.
المصدر: سيريا انديكيتور