أثار بثّ الفيديو الذي وثق جريمة قتل فتاة الحسكة، على منصّات التواصل الاجتماعي وبعض الفضائيات، كثيرًا من المواقف المتباينة المتعارضة إلى حدّ التناقض؛ فيما التزم كثيرون -كالعادة- بالصمت من مواقع مختلفة. ولكن الاتجاه العام تمثّل في رفض ما حدث، والمطالبة بمحاسبة الجناة.
مع الأسف، لم تكن هذه الجريمة الأولى، ولن تكون الأخيرةَ، في سلسلة الجرائم التي تسوّق باسم “غسل العار” أو “المحافظة على الشرف”؛ ما دمنا نسير في الاتجاه ذاته، ونلتزم الرؤى الحجرية نفسها، في تعاملنا مع قضية محورية من القضايا الإنسانية في المجتمعات الحديثة، ونعني بها قضية حرية المرأة ودورها الفاعل الحيوي في البناء المجتمعي.
لا يمكن فصل هذه الحادثة، وحوادث القتل الأخرى التي تتعرض لها الفتيات والنساء بصورة عامة باسم “الشرف”، عن الاتجاه العام الذي يسود اليوم العديد من المجتمعات. وهو الاتجاه الذي يطالب بالتضييق على حرية المرأة، ويسعى أصحابه إلى مصادرة الحقوق التي كانت المرأة قد حصلت عليها، بفعل كفاحها وسعيها المتواصلين كي يُعترف بها كائنًا إنسانيًا كامل الأهلية والصلاحية.
هذا ما حصل، ويحصل، في العراق ومصر ولبنان وسورية واليمن وتونس وبقية الدول العربية؛ وفي كثير من الدول الإسلامية.ولعله من اللافت أن معظم التراجعات على صعيد حرية المرأة قد حدثت، وتحدث، في الدول التي حظيت فيها المرأة منذ بدايات القرن المنصرم، حتى مرحلة السبعينيات، بمكانة متميزة.
ولم تكن محاولات التحكّم في لباسها وتفكيرها وسلوكاتها من بين أهداف القوى السياسية، وقوى المجتمع الأهلي، وإنما كان هناك عرفٌ اجتماعي وعادات اجتماعية، تختلف من منطقة إلى أخرى، تلزمها ببعض القواعد التي كانت غالبًا تحظى بقسطٍ من المرونة يمكّنها من التكيّف معها، والعمل في الوقت ذاته من أجل تحسين أوضاعها.
لقد بدأت التراجعات على صعيد حقوق المرأة والاعتراف بدورها ومكانتها في المجتمع، وزاد التحكم في لباسها ومظهرها، مع تزايد نفوذ الأيديولوجية الإسلاموية، بعد الفشل الذريع للأيديولوجيات القوموية والاشتراكية، والإخفاقات الكبرى على صعيد التيارات الليبرالية والعلمانية والديمقراطية، وبعد تراجع النخب الفكرية، أو صمتها، وتحوّل غالبيتها مع الوقت إلى جزء من مؤسسات الأنظمة العسكرية في الدول الجمهورية التي كانت في صراع مستمر مع التيارات الإسلاموية، الأمر الذي دفع بعضهم إلى إطلاق صفة العلمانية عليها، في حين أنها في واقع الأمر كانت تستخدم كلّ الأوراق، حتى ورقة الدين، للحفاظ على السلطة والتحكّم في مقدرات الدولة والمجتمع. وتعدّ مرحلة حكم حافظ الأسد في سورية 1970-2000 المثال الأبرز في هذا السياق.
ومع الإعلان عن “الجمهورية الإسلامية” في إيران عام 1979؛ أخذت الأمور منحى أكثر سلبية بالنسبة إلى المرأة في منطقتنا، وهيمنت التفسيرات المحافظة من جانب رجال الدين على الجو العام، وانعكس ذلك على المواقف من حرية المرأة ودورها على مختلف المستويات. وانتشرت تلك الأفكار في المجتمعات العربية التي حاول النظام الإيراني التمدد فيها، عبر استغلال المظلوميات الشيعية، حتى تمكن من بناء أذرعه العسكرية والسياسية فيها، وفرض على أوساطها ثقافته وقواعده في ميدان الحد من حرية المرأة، وإلزامها بدور هامشي مرسوم وفق إرادات واجتهادات “رجال الدين المتحكمين”.
وقد أسهمت التيارات “الجهادية” التكفيرية في العديد من الدول العربية، بالتفاعل مع بروز القاعدة وسيطرة حركة طالبان على الحكم في أفغانستان، في دعم التوجهات المناهضة لحقوق المرأة، وإرغامها على التزام الأدوار والحدود التي تُرسم لها من قبل من أعلنوا أنفسهم “حماة الدين”، ويمتلكون مفاتيح تفسير النصوص وتأويلاتها في فرض مزيد من القيود على حريات المرأة، وسلبها كثيرًا من الحقوق التي كانت قد حصلت عليها على مدى عقود، بفضل استمرارها في المطالبات، وبفعل الجهود التنويرية التي بذلتها النخب الفكرية والسياسية في مختلف الدول العربية والإسلامية، لا سيّما في مصر وتونس والعراق وسورية ولبنان.
ولم يقتصر تأثير تلك التوجهات النكوصية على أوضاع المرأة في منطقتنا، بل امتد ليشمل تجمعات المهاجرين العرب والمسلمين، في الدول الأوروبية والغربية الديمقراطية بصورة عامة، وهي التجمعات التي تشكّلت وكبرت مع تزايد أعداد اللاجئين الذين لاذوا بتلك الدول هربًا من استبداد أنظمة الحكم في مجتمعاتهم الأم.
وقد عرقل هذا الأمر مسألة اندماجهم مع مجتمعاتهم الجديدة، وأدّى في كثير من الأحيان إلى مآس وأزمات، على المستويين الفردي والمجتمعي، وتحوّل الموضوع إلى مادة دعائية استخدمتها، وتستخدمها، القوى اليمينية المتشددة في سبيل كسب مزيد من التأييد.
أما في سورية، فقد كانت هناك بدايات واعدة، مع انطلاقة الثورة السورية السلمية في آذار/ مارس 2011، من جهة إمكانية حصول المرأة على مزيد من الحقوق، لتقترب شيئًا فشيئًا من المكانة التي تليق بها، وهي المكانة التي تحقق لها التساوي مع الرجل في الحقوق والواجبات، والمشاركة الفاعلة في بناء مجتمعها، وبما يضمن مستقبلًا آمنًا مزدهرًا للأجيال المقبلة.
ولكن مع عسكرة الثورة، نتيجة الحرب التي أعلنها النظام على الشعب الثائر على استبداده وفساده وإفساده، وبفعل جهوده في ميدان تشجيع ودعم ظهور قوى “جهادية” متطرفة، ليضع العالم، بناء على الاستراتيجية التي كان قد اعتمدها واستعدّ لها مسبقًا، أمام بديلين فاسدين سيئين هما: إما الاستبداد أو الإرهاب؛ بعد أن حدث كل ذلك؛ تبدّدت كلّ الآمال التي كانت تبشّر بمزيد من الحقوق للمرأة، بل أُثقل كاهلها بمزيد من القيود التي لم تكن موجودة، وأصبحت في منظور الجماعات المتطرفة مجرد “أداة للتفريخ”، وإشباع الغرائز والنزوات.
أما لدى النظام “العلماني” (حليف نظام وليّ الفقيه الإيراني)، فقد استُخدمت لتكون مجرد أداة دعائية، في محاولة لتجميل وجهه الذي لا تستطيع كل مساحيق الدنيا التغطية على قباحة وبشاعة جرائمه وسلوكاته.
ولم يقتصر الاستخدام الدعائي للمرأة على النظام وحده، بل شمل ميليشيات حزب “العمال الكردستاني” التي دخلت أصلًا إلى الساحة السورية، تحت يافطة حزب “الاتحاد الديمقراطي”، بالتوافق والتنسيق مع النظام نفسه، وبدعم منه؛ فالمرأة والتغني بحريتها ودورها وحقوقها، من قبل الماكينة الإعلامية لهذا الحزب، إنما هي مجرد مادة للدعاية الخارجية والاستهلاك المحلي، لأن القرارات الحاسمة في نطاق هذا الحزب إنما تُتخذ من قبل مجموعة العجائز في جبال قنديل، التي قد باتت منذ عقود جزءًا من المشروع الإيراني، في كلّ من العراق وسورية، هذا على الرغم من مختلف أشكال التنسيق والارتباط المصلحي الميداني التي نشهدها في منطقة شرقي الفرات، بين فرعهم السوري والقوات الأميركية.وما تواجهه المرأة السورية اليوم، خاصة في المناطق الريفية، ومنها مناطق الحسكة تحديدًا، هو التقاطع بين التقاليد، ولا سيّما العشائرية، و”اجتهادات” شرعيي القوى الاسلاموية المتشددة التي ترمي إلى التحكّم في حياة المرأة، وذلك عبر وضع القيود التي عليها أن تلتزم بها، لتكون تابعة بصورة كاملة لإرادة الرجل في أسرتها ومجتمعها.
وما يضفي قساوة خاصة على معاناة المرأة في مجتمعاتنا راهنًا أنها تعيش واقعًا اجتماعيًا يكبّلها، ويسدّ عليها أبواب العلم والعمل والإبداع، ولكنها في الوقت ذاته تتابع، بشغف، أخبار إنجازات المرأة في المجتمعات الأخرى عبر الفضائيات، ووسائل التواصل الاجتماعي؛ فتعيش شقاءً وجوديًا لا مثيل له، مسلوبة الإرادة والحقوق.
إنها مرحلة انتقالية صعبة تعيشها المرأة في مجتمعاتنا بصورة عامة، ولكن الصعوبة هي استثنائية بالنسبة إلى الجيل الجديد الذي يعيش حالة سوداوية نتيجة تمزقه بين الواقع والمنشود. هذا مع معرفة الجميع، خاصة معشر الرجال، أن لا نهضة لأي مجتمع من دون دور فاعل خلاّق لنسائه وفتياته.
عبد الباسط سيدا _ مركز حرمون للدراسات