مع كل قضية أو حادثة تقتضي التضامن النسوي، تصعد في وجوهنا كنسويات سوريات مقاومات للاستبداد، العديد من الأسئلة: ما هي أولوياتنا؟ أي القضايا لها الأسبقية؟ كيف ومع من نتضامن؟ وكيف ستخدم تضامناتنا قضيتنا السياسية والنسوية في الآن معاً؟
تزعم هذه المادة أن النظرية النسوية التقاطعية يمكن أن تجيب على هذه الأسئلة، وبالتالي فإن اتباع المنهج التقاطعي سيسمح لنا برؤية عوامل القمع المختلفة وآثارها المتنوعة على كل مجموعة أو حتى امرأة على حدا، ففي الوضع السوري اليوم يبدو “الكل” على صواب و”الكل” على خطأ، ربما لأن أي جزء من هذا “الكل” لا يرى سوى ما تتيحه له زاوية نظره فقط.
ركزت الموجة النسوية الأولى والثانية على “حقوق النساء” عموماً، وهو ما وجدت فيه نسويات في مناطق متفرقة وقصية من العالم ثغرة منهجية أدت إلى تهميش قضاياهن، ويعود الكثير من الفضل للنسويات الأمريكيات من أصول أفريقية اللواتي قدمن للنسوية منظوراً من زاوية مختلفة للعمل والنضال في عقد السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، والذي تشاركن به مع نسويات من الجنوب العالمي كرد فعل على مركزية النسوية العالمية واحتكار المنظور من قبل النسوية الأوروبية والأمريكية البيضاء. وجاءت نظرية “التقاطعية” كمنهجية للتحليل والبحث النسوي لتسليط الضوء على النسوية كحركة سياسية وكحركة تحرر عالمي، تأخذ بعين النظر كل الهويات الجزئية وأشكال القمع والقهر المختلفة التي تواجهها النساء في نضالهن من أجل عالم خالٍ من كل أشكال التمييز الجندري والعرقي والطبقي، بالإضافة لأشكاله العديدة الأخرى من أجل الوصول إلى عالم تسوده العدالة الإنسانية الحقة.
تعود فكرة النسوية التقاطعية إلى المحامية الأمريكية من أصول إفريقية والباحثة النسوية كمبرلي كرينشو التي وجدت من خلال عملها كمحامية في دعاوى قضائية رفعتها نساء سوداوات على أرباب عملهن؛ أن المرأة السوداء تعاني من تقاطع اضطهادين؛ اضطهاد على أساس الجندر واضطهاد عرقي في ذات الوقت، وتقول كرينشو في محاولة لتبسيط الفكرة: “التقاطعية هي عدسة، تستطيعين من خلالها رؤية المصادر التي تأتي منها السلطة وتتصادم، وكيف تتداخل تلك المصادر وتتقاطع. الموضوع ليس ببسيط، فهو ليس مجرد وجود تمييز على أساس العرق هنا أو تمييز على أساس النوع هُنا أو تمييز على أساس الطبقة أو الميول الجنسية والهويات الجندرية هُناك. في كثير من الأحيان، يمحو الإطار التحليلي ما يحدث حقًا للأشخاص اللاتي والذين يعانون من هذه البنى الاجتماعية”.
وفي إحدى خطبها تنتقد كرينشو الحركة النسوية التي همشت قضية النساء السوداوات حيث تقول: “… ماذا لو أن المعركة ضد المجتمع الذكوري والمعركة ضد سيادة البيض كانتا معاً، ماذا لو لم يكن هناك غربة بين المعركتين؟ ماذا لو أن النساء الخاضعات لكلا القمعين معاً تم وضعهن في المركز ولم يتم تهميشهن في هذا الصراع؟” ثم تضيف: ” لنتخيل أن تمكين النساء في أمريكا لم يرى ويحتفى به كانتصار للنساء البيضاوات، لو أن تحرر العبيد لم يرى ويحتفى به كتحرر للرجل الأسود؟ ماذا لو أن النسوية دمجت منذ البداية النساء السوداوات والمهاجرات والآسيويات، تخيلوا لو أن الحركة المضادة للعنصرية شملت كل الملونين نساءً كانوا أم رجال؟ ماذا كان يمكن أن يحدث؟” وتستنتج كرينشو أنه لو حصل كل ذلك لتم اختصار الكثير من الوقت والمعاناة، وتم حل الكثير من المشكلات التي يعاني منها المجتمع الأمريكي اليوم. وتفترض كرينشو أن النسوية التقاطعية لديها الحل لرؤية وتضمين كل أشكال القمع التي يتعرض لها البشر، وتشرح بأنها طريقة أخلاقية لرؤية العالم، تعطي كل القضايا في العالم منهجية للبحث والتحليل والتفكير والتخيل.
تتبنى النظرية النسوية التقاطعية منهجية تعتمد على تحليل عوامل القمع المختلفة والمتنوعة التي تتعرض لها النساء، فلكلٍ منا موقعها المختلف، جندرياً، جنسانياً، عرقياً، طبقياً، مجتمعياً وغيرها، وبذلك فإن أشكال القمع التي نواجهها تختلف باختلاف مواقعنا؛ على سبيل المثال، بعضنا يصدف أن تتعرض للقمع الذكوري والعرقي والقمع السياسي معاً، وبعضنا للقمع الذكوري والقمع السلطوي والديني معاً، وبعضنا للقمع على أساس هويتها الجنسية المغايرة وقمع الاستبداد والاضطهاد العرقي معاً، وأخرى تواجه القمع الذكوري والاضطهاد الطبقي والاستبداد في آن معاً.
تقدم النسوية التقاطعية منظوراً شاملاً ومفتوحاً لرؤية كل أشكال التسلط والاستبداد والقمع الذي تواجهه النساء، وذلك من أجل أن تكون الحركة النسوية عالمية وتحررية وقادرة على هدم المنظور الهرمي والشمولي، ومن أجل إعطاء مساحة للقضايا الخاصة بكل مجموعة بشرية وظروفها وواقعها الذي من الصعب جداً إسقاط مناظيرنا إليه من الأعلى، فهي تعطي المساحة والاهتمام لكل قضايا التحرر الإنساني للتعبير عن نفسها وعن مطالبها، ويبقى أنها نظرية قابلة للتطور، فالنسويات التقاطعيات يعترفن بالحقيقة الموضوعية التي تلخصها الباحثة النسوية باتريشيا هيل كولينز، حين تقول: “لا توجد مجموعة واحدة لديها زاوية واضحة من الرؤية، لا تمتلك أي مجموعة نظرية أو منهجية تسمح لها باكتشاف “الحقيقة” المطلقة”، لذلك يمكننا باستخدام منهجية النسوية التقاطعية مقاربة القضايا النسوية وإعادة صياغة مفهوم التضامن النسوي من زوايا مختلفة.
ترى بعض النسويات السوريات أننا لا زلنا واقفات عند الموجة النسوية الثانية، فنحن نناضل من أجل تضمين حقوقنا البسيطة في الدستور وفي قانون الأحوال الشخصية، في الحصول على حقوق متساوية مع الرجال من ناحية الحق بالإرث والاجهاض ومنح جنسيتنا لأبنائنا، من حيث الاعتراف بنا وبقدراتنا وحقنا بالمشاركة السياسية، باتخاذ القرارات فيما يتعلق بحياتنا وبمستقبل عائلاتنا، حقنا في إعلاء الصوت ضد الاغتصاب والتحرش، وحقنا في الخروج من الصورة المجتمعية التي تصور النساء ككائنات هشة وضعيفة وحقنا في امتلاك أجسادنا، نحن نواجه كل هذه التحديات في الوقت ذاته الذي يتوجب علينا النضال يومياً مع الرجال ضد كل أشكال الاستبداد التي تقف في طريقنا عند كل مفترق، استبداد وقمع السلطة الديكتاتورية أولاً، استبداد سلطات الأمر الواقع في كل منطقة، وكذلك استبداد التطرف والإرهاب، نعترف كذلك بأنه ليس في حوزتنا الكثير من التجارب المشابهة تماماً لتجربتنا لكي نستطيع البناء عليها، فبينما كانت معركتنا واضحة في الـ 2011 حيث رأينا أن الثورة فرصة تاريخية للخلاص من الاستبداد ومن التمييز ضد النساء، إلا ان السنوات اللاحقة من الحرب خلقت مصادر جديدة للقمع والاضطهاد، ربما لا نوليها جميعاً ذات الأهمية، فتجاربنا اختلفت باختلاف المناطق والسياق السياسي والعسكري فيها، والتغيرات التي طرأت على مواقعنا التي تبدلت وتتبدل كل حين، فالنساء اليوم، بالإضافة لكل أشكال القمع القديمة تتقاطع في طريقهن مصادر أخرى مركبة للاضطهاد كالعنف وانعدام شروط الاستقرار، التهجير، والفقر، تشتت العائلة، والفساد واستغلال الحاجات وغيرها، ولكل جماعة خصوصيتها وظروفها التي قد لا تتشابه مع أي مجموعة أخرى ، لذلك نجدنا نختلف ونختلف بالرأي وننقسم وتضيع منا البوصلة غالباً.
يمكن لنظرية النسوية التقاطعية أن تمكننا من تفكيك أشكال القمع المتنوعة التي تواجهنا على اختلاف مواقعنا والانطلاق منها لتحليل قضايانا، لوضع خططنا وتشكيل تضامناتنا، ففي حالتنا السورية لا يمكن الفصل بين النضال النسوي والنضال ضد الاستبداد السياسي السلطوي المتمثل بالاستبداد الأسدي، مثلما من غير المسموح بعد اليوم عدم رؤية أو تهميش أشكال التسلط الأخرى، ولا يمكننا تأجيل نضالاتنا النسوية والتركيز على العمل مع الرجال للخلاص من الاستبداد، فالدروس التاريخية التي تعلمناها تؤكد أن البديل للاستبداد لن يضمن تحقيق المساواة الجندرية، وأن الديمقرطية يمكن أن تكون ديمقراطية ذكورية أو تكون على مقاس طبقة معينة. ولكي لا يأتي يوم نستخدم فيه جملة التمني المستحيل التي استخدمتها كرينشو في خطابها: “آه لو أننا قمنا بكذا”، يجب علينا العمل على تحليل وتفكيك مصادر القمع المركب التي نواجهها، والدفع بكل القضايا إلى المركز وتسليط الضوء عليها، وقبل كل ذلك رفع أصوات النساء اللواتي يقف في طريقهن قمع ثنائي أو ثلاثي أو خماسي لكي يعبرن عن ذواتهن وقضياهن بدون إملاءات أو وصاية نخبوية.
وجدان ناصيف_ موقع “الحركة السياسية النسوية السورية”