أنس عوض _ سيريا برس
تمر اليوم الذكرى العاشرة لـ”مجزرة زملكا” بريف دمشق، والتي نفذتها قوات النظام السوري، عبر تفجير سيارة مفخخة عن بعد في جموع متظاهرين كانوا يشيّعون شاباً قتلته في وقت سابق، ما خلّف عشرات القتلى ومئات الجرحى، لتكون المجزرة الأولى التي تشهدها المدينة الواقعة في الغوطة الشرقية، بعد اندلاع الثورة في 2011.
توتر أمني وتجهيز التشييع
المحامي والناشط الحقوقي محمد خيرالله الحلبي، وهو من زملكا، كشف لـ “سيريا برس” حادثة سبقت المجزرة، مشيراً إلى أنه في صباح يوم السبت 30 حزيران 2012 دخلت سيارة مدنية يقلها عناصر من حاجز “زينو” آنذاك جنوب المدينة، ثم قاموا باغتيال ابني “عبد الهادي الحلبي”، حيث كان طالباً في الصف الثالث الثانوي، و يعمل مع مجموعة من الشباب الثوريين على حماية المدينة، وكما تجري العادة قمنا بتجهيز الجنازة لتشييعه”.
وأضاف أن النظام السوري، أراد الانتقام من أهالي المدينة على خلفية خروجهم ضد نظامه ومؤسساته الفاسدة مطالبين بالحرية والكرامة وإطلاق سراح المعتقلين، لافتاً إلى أنه وعندما علم أن الشاب الذي سيجري تشييعه هو ابني، خطط لارتكاب جريمة كبرى مستغلا مشاركة المتظاهرين من الناشطين الحقوقيين والثوريين في التشييع، للانتقام و لقتل أكبر عدد منهم.
ولفت إلى أن “قوات الأمن أغلقت المدينة بكافة مداخلها وخاصة شارع الاتحاد عند منطقة مسجد التوبة ومنعت مرور السيارات والأشخاص به عند الساعة الواحدة ظهراً، وهذا ما شكل ذعراً عند أهالي المدينة خوفاً من أي اعتقالات مفاجئة، واستغرق الإغلاق حوالي ساعة ونصف”.
لكن في الوقت ذاته، بحسب الحلبي، فإن ما جعل أكبر قدر من الناس والناشطين تطمئن قلوبهم بأن الوضع على ما يرام حتى يشاركوا في تشييع عبد الهادي، هو انسحاب قوات النظام بجميع عناصرها من المكان مع امتناع حواجزها المتمركزة على مداخل المدينة عن تفتيش السيارات ومراقبة الداخلين والخارجين للمدينة على غير عادتها.
“اجتمع المشيعون وعددهم يقدر بنحو خمسة آلاف مُشيّع من مختلف مناطق دمشق وريفها أمام منزلنا القريب من مسجد التوبة، وكان ما يميز هذا التشييع مشاركة عدد من الناشطين الثوريين ومن الطلاب الجامعيين وطلاب المرحلة الثانوية من أصدقاء الشهيد عبد الهادي وعدد من النساء من حرائر زملكا، وانطلق موكب التشييع عند الساعة الخامسة والربع عصرا وبعدها حلت الفاجعة علينا”، يقول محمد خير الله الحلبي.
سلاح ومسرح الجريمة
وأكمل الحلبي حديثه بالقول: “تابعنا مسير موكب التشييع وكان هناك في الأجواء طائرة مروحية تحلق فوقنا تماما ترصد مسار موكب التشييع، ومع ذلك استمرينا في المسير وكان باقي المُشيّعيين ينتظروننا في مسجد زملكا الكبير، حيث ستقام الصلاة على الشهيد، وكان المتظاهرون يهتفون بهتافات رثاء لروح الشهيد مرددين شعارات تمجد الثورة السورية”.
وأضاف الناشط الحقوقي: “بعد خروج قوات الأمن بساعات، ركنت سيارة مفخخة أمام مسجد التوبة لتفجيرها، وكان الهدف تنفيذ جريمتهم الكبرى عند وصول المشيعين للمسجد، وعندما وصل المشيعون واقتربوا من السيارة المفخخة، قامت قوات الأمن بتفجيرها بجهاز عن بعد فكانت هي سلاح الجريمة ومسرحها ساحة المسجد، وبعدها لم أرى نفسي إلا مصابا بقدمي”.
من جانبه، قال المحامي والناشط الثوري أيمن حمدو، وهو أحد أبناء مدينة زملكا، لـ”سيريا برس”: “قبل البدء بالتشييع عاينت منطقة مسجد التوبة وما حوله لرصد أي تحركات قد تكون مشبوهة، فكانت المنطقة تشهد هدوء تام وبعدها التحقت بموكب التشييع من أمام منزل عبد الهادي، إلى أن وصلنا أمام المسجد وتم تفجير السيارة المركونة أمام المسجد”.
كانت “لحظة التفجير رهيبةً جداً، فجأة سمعنا دَوِيّ انفجار قوي وانتشرت كتلة من النار من حولي وبدء صراخ المشيعين بنداء الاستغاثة لإسعافهم، فنظرت من حولي رأيت عشرات الجثث والأشلاء المتقطعة في كل مكان”، وفق الناشط حمدو.
وتحدث عن أنه نهض من الأرض مسرعاً لإسعاف المصابين وانتشال جثث الضحايا، وكلما اقترب من الجريح لم يستطيع إسعافه وحمله من شدة درجة احتراقه وذوبان أعضاء جسده وخاصة عندما يكون من أحد أقاربه.
ووصف المشهد حينها بـ”المؤلم جداً ولايستوعبه عقل بشر”، حيث خلّف انفجار المفخخة خراب هائل في الأبنية السكنية والمحلات التجارية. فكانت “كارثة حقيقية حلت علينا من جرائم النظام السوري”.
بدوره، قال الناشط السياسي يوسف الغوش من مدينة زملكا وهو عضو مؤسس في تنسيقية زملكا آنذاك، إنه “أثناء عملية إسعاف الجرحى وانتشال جثث الضحايا والأشلاء، سمعنا صوت إطلاق نار من الحواجز العسكرية المحيطة بالمدينة، فرحاً بجريمتهم الدموية، وتزامن معها إطلاقها عدة قذائف هاون على أطراف المدينة لإرباك المدنيين والمسعفين في عملية إسعاف الجرحى في ذلك الوقت”.
الشاب سيف الدين أبو جواد، أحد الناجين من مجزرة زملكا، قال إنه “في يوم المجزرة عندما وصلنا عند ساحة مسجد التوبة كنت أقف على سيارة الإذاعة وبدأت أردد هتافات لبلدتي زملكا وهي: “زملكا العدية زملكا تحيا رجالك والله يلعن خوانك خوانك مو من عنا”، “ولم أكمل هتافي حدث الانفجار”.
وأوضح أبو جواد وهو منشد في المظاهرات السلمية، لـ “سيريا برس”، بأنه “فجأة بلمح البصر اشتعل لهب من النار من أمامي وصوت انفجار ضخم وقوي، ومن شدة الضغط طرتُ في الجو وأصبتُ بشظايا و حرق طفيف بيدي اليسرى، بعدما انفجرت السيارة قمت بإسعاف المصابين إلى المشافي الميدانية ومن بينهم كان أبي وأقربائي وأصدقائي “.
الوضع الطبي ومداهمة المستشفيات
عقب الانفجار، امتلأت ساحة المسجد بعشرات الضحايا ومئات الجرحى وانتثرت الأشلاء في كل مكان، وفاحت رائحةُ دماء الضحايا التي غصات دمائهم في مسرح الجريمة وفي سيارات الإسعاف، وظلت رائحة الدماء تفوح في المنطقة لأكثر من شهر، وبدأت مهمة المسعفين بعملية إجلاء الجثث وإسعاف المصابين إلى المستشفيات المجاورة للمدينة، فكانت لحظات عصيبة يعيشها أهالي المدينة بذلك المشهد الدموي، بحسب ما ذكر المحامي حمدو.
وعن الوضع الطبي والمصابين، يقول الممرض والمسعف الميداني سمير الغوش لموقع “سيريا برس”: “عندما سمعت صوت الانفجار توجهت مسرعا إلى موقع التفجير وسمعت أصوات صراخ الجرحى وهم يستغيثون بطلب المساعدة لإسعافهم، وبدأنا بنقل الجرحى إلى المستشفيات وتحديداً إلى مستشفى الفاتح في مدينة كفر بطنا، والرجاء في مدينة عربين ونقلنا قسم من المصابين إلى المستشفيات الميدانية بحكم أن إصابتهم قليلة الخطورة.
المسعف الغوش، أضاف: “كنا كادراً طبياً مؤلفاً من 4 ممرضين وطبيب، وقمنا بمعاينة جراح المصابين، والذين تعرضوا لحروق وإصابات بالغة، وأسعفناهم إسعافات أولية بضماد جراحهم وسحب الشظايا الحديدية الطفيفة من أجسادهم وغسيل الحروق بالسيروم الملحي، وطلبنا من كافة النقاط الطبية والمستشفيات في الغوطة الشرقية تأمين سيارات إسعاف مع كوادر من الأطباء والممرضين للتوجه نحو النقاط الطبية و مكان التفجير، نظراً لوجود عدد كبير من المصابين ولم يكن لدينا الخبرة الكافية في التعامل مع إصاباتهم”.
ولفت الناشط محمد خير الله الحلبي إلى أن مدينة زملكا “شهدت طوقا أمنيا من قوات النظام السوري بعد التفجير مباشرة، ولم تكتف بارتكاب المجزرة المروعة بحق المدنيين السلميين فحسب، بل قامت بقتل الأطباء والمسعفين ومن بينهم الطبيب جمال طبرنين من بلدة مسرابا بقنصه برصاصة بظهره وهو متجه لإسعاف الجرحى، على حاجز جسر زملكا، وأكمل النظام سلسلة إجرامه بمنع إسعاف الجرحى وقام بملاحقتهم بدلاً من إسعافهم” .
إلى ذلك، قال فني تخدير الطبيب وليد عواطة، وهو من حي جوبر الدمشقي، وكان حينذاك يعمل في المستشفيات الميدانية بمختلف مناطق الغوطة الشرقية وبشكل خاص في طبية زملكا وعربين، لـ “سيريا برس”، إن حصيلة عدد الجرحى في مجزرة زملكا وصلت لأكثر 400 جريح، معظمهم مصابون بحروق من الدرجة الثالثة والرابعة، إضافة للكسر والبتر لأحد الأطراف.
ووفق عواطة، قمنا بسبب عدد الإصابات الكبير، بالتواصل مع زملائنا من الأطباء بمختلف الاختصاصات لمساعدتنا، وتم توزيع ونقل بعض الحالات إلى المستشفيات الميدانية بحسب تقييم وضع الإصابة، ومنها إلى مستشفى الفاتح والرجاء وبعض الإصابات الحرجة كانت تحتاج إلى عمليات مباشرة فتم نقلها لمستشفيات دوما و دمشق رغم المخاطر والتدقيق الأمني على الحواجز وخوفاً من مداهمة المستشفيات وقتل الأطباء والمسعفين، واستمر عملنا في المستشفيات قرابة 48 ساعة متواصلة في علاج الجرحى”.
ولم تكتف قوات النظام بارتكاب مجزرة التفجير وإطلاق قذائف الهاون على المدينة، بل قامت بمداهمة المستشفيات التي جرى إسعاف الجرحى إليها ومنها مشفى الفاتح في مدينة كفر بطنا بالغوطة الشرقية.
الطبيب محمد الشامي (اسم مستعار) أخصائي في الجراحة العامة وكان يعمل في مستشفى الفاتح آنذاك، قال لـ”سيريا برس”، إنّه “في الساعة الأولى من وقوع المجزرة استقبلنا أكثر من مئة جريح بمختلف الإصابات منها العصبية والعظمية والحروق وكانت أكثرهم خطيرة تحتاج لإجراء عمليات مباشرة، وبعد توافد المصابين للمستشفى بدقائق قامت عناصر من الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة، بإطلاق النار بشكل عشوائي لإرهاب المسعفين، وبعد دخولهم قسم الإسعاف استمروا بإطلاق الرصاص بشكل عشوائي ما أدى إلى إصابة بعض الجرحى”.
وبحسب الطبيب الشامي، “تابعت القوات المقتحمة اقتحامها للمستشفى، إلى أن وصلت لغرفة العمليات، حيث كنت متواجدا داخلها ومعي ممرض و ممرضة وتم إطلاق النار اتجاهنا وكان يفصلنا عن الموت بضع سنتيمترات قليلة، وتمكنّا بعدها من الهروب باتجاه القبو أنا وثلاثة أطباء، حيث حوصرنا فيه لدقائق معدودة، وبعدها تم الاعتداء علينا بالضرب بأخمس البندقية وانهالوا علينا بالإهانات والشتائم، وقال أحد العناصر ” من يحب أن يموت أولاً منكم”، ثم انسحبوا فجأة من المستشفى وملامح الخوف ظاهرة على وجوههم”.
وعلى إثر انسحاب قوات النظام المفاجئ، قال الطبيب الشامي، إنه “بدأنا بالعمل بعلاج الجرحى وتوزيعهم حسب درجة إصابتهم، وقمنا بإجراء أكثر من 20 عملية جراحية في ليلة واحدة منها العصبية والعظمية والأوعية، وأنا أجريت سبع عمليات جراحية، وكنا نواجه نقص الأدوية والمستلزمات الطبية لإصابات الأوعية الدموية، ومنها أكياس الدم.
ونوه إلى أن النظام منع عن مشفى الفاتح شراء أي أكياس دم من بنك الدم في دمشق، مما دفعنا لتأمين بعضها بالتبرع أو عبر التعامل بعض الأطباء هناك، أما المستلزمات الطبية، فكنا نقوم بتأمينها من مشفى تشرين العسكري في برزة، لافتاً إلى أنه وبعد انتهاء عملنا من العمليات، “تم نقل الجرحى إلى المستشفيات الميدانية خوما من أي اقتحام ثاني للمستشفى”.
توثيق ودفن ضحايا المجزرة
وعاد الطبيب عواطة للقول: أنَّ “عدد ضحايا مجزرة زملكا وصل في اليوم الأول لحظة التفجير إلى 128 قتيلاً، وفي اليوم الثاني والثالث ارتفعت الحصيلة إلى 142 قتيلاً”.
وبيّن بأنه “من الصعوبة بمكان حينها، إحصاء أسماء بعض القتلى بالاسم بسبب وجود قوات الأمن في مناطق الغوطة الشرقية فهذا ما شكّل خوفاً عند الكثير من أهالي الضحايا عن التصريح بأسمائهم، وأما السبب الثاني فيعود لأن بعض الضحايا هم من مختلف المدن والبلدات المجاورة لزملكا، حيث تم دفنهم ببلداتهم لذلك تعذر توثيقهم بالاسم، وتم توثيقهم بالرقم فقط”.
الناشط السياسي، يوسف الغوش وافق الطبيب عواطة في صعوبة توثيق وإحصاء عدد القتلى، والذي عزاه لعدم وجود كادر متخصص بالإحصاء لمتابعة عملية توثيقهم، نظرا لسيطرة قوات النظام على المنطقة في حينها، ناهيك عن قوة الانفجار والذي حوّل الكثير من المُشيعين إلى أشلاء متناثرة في كل مكان، إضافة لضعف تنسيق الناشطين فيما بينهم”.
وشدد على أن “مجزرة زملكا لم تأخذ حقها في التغطية الإعلامية لإظهارها للرأي العام والمجتمع الدولي، كما لم تأخذ حقها من المواقف الدولية التي دانت النظام السوري، وحضّته على عدم ارتكاب الجرائم التي حصلت فيما بعد”.
وبالانتقال إلى دفن الضحايا قال المحامي حمدو: “خلال الساعات الأولى من ليلة المجزرة في مقبرة زملكا الجديدة التي تم افتتاحها في ذلك اليوم، حيث تم حفر خنادق طويلة لدفن الضحايا نظرا لعددهم الكبير، كنت أحد الشهود والمشرفين على دفن 84 قتيلاً، من بينهم 3 صرر قماشية كانت تحتوي على أشلاء المشيعين “.
من المسؤول المباشر عن المجزرة؟
المحامي والناشط الحقوقي محمد خيرالله الحلبي، أكد أن “المسؤول المباشر عن مجزرة زملكا، هو مدير إدارة المخابرات الجوية السابق، اللواء جميل حسن، والذي عرف بإجرامه بارتكاب مجازر إبادة جماعية بحق عشرات آلاف السوريين، إضافة لوزير الداخلية في حكومة النظام، محمد الرحمون، والذي كان يشغل منصب مدير فرع المخابرات الجوية في حرستا آنذاك”.
وختم بالقول ” إن هؤلاء المجرمين، لايمكنهم بطبيعة الحال أن ينفذوا جرائمهم، إلا بضوء أخضر من رئيس النظام بشار الأسد”.