لا أعرف إن كان القاص السوري زكريا تامر قد سُئل عن سبب تسميته لثلاث مجموعات قصصية، بأسماء تتصل بشكل أو بآخر بالنار، العنصر الأساسي بين العناصر الأربعة المشكلة للطبيعة بحسب المعتقدات القديمة!
كانت مجموعته القصصية “صهيل الجواد الأبيض” قد صدرت عام 1960، لكنه ومنذ عام 1963 أي العام الذي شهد الانقلاب البعثي، والمجزرة ضد القوى الناصرية، وطيلة عقد كامل سيصدر كتابه “ربيع في الرماد” ثم “الرعد” في العام 1970 وهذه سنة استيلاء الأسد الأب على السلطة، ثم سيصدر في العام 1973 كتابه الأكبر، الذي سيحمل إسماً طافحاً بالدلالات، ستعتبره الأجيال المعاصرة قصيدة، يكررونها كلما حدثت بين ظهرانيهم نائبة من النوائب المفجعة، الكثيرة، في سوريا!
عنوان “دمشق الحرائق”، لم يعد ملكية خاصة بزكريا، لقد أمسى كناية عن واقع مروع، وصار ممكن أن يستخدمه أي المتأذين من هذا الواقع!
غير أن مقاربة التجليات الخيالية التي يصنعها صاحب مخيال هائل كزكريا، مع الواقع الذي يعيشه السوريون هذه الأيام، لن تكون في صالح الأدب، فقد تجاوزت الوقائع المؤلمة في حيوات الناس شطحات القلم، وربما صارت أشد عمقاً منه، أو تجليه الأشد فداحة!
كان محمد الماغوط قد وصف زكريا بأنه حداٌد شرسٌ، “ولكن في وطن من الفخار! لم يترك فيه شيئًا قائماً إلا حطّمه، ولم يقف في وجهه شيء سوى القبور والسجون، لأنها بحماية جيدة”!
لكن القاص الذي هجر بلاده منذ عقود، بسبب القبور والسجون، وبالمقاربة المجازية ذاتها، كان فعلياً يستخدم النار، في مهنته القديمة ليعيد صياغة المعدن الأسود القاسي! دون أن يرى في ذلك ما يمنح النار براءة مما يحدث من أضرار في عملية إعادة تشكيل الفلزات، إذ يكفي أن تتطاير شرارة واحدة لنصنع ناراً صغيرة تحرق قشتين، أو ورقة صغيرة كالورق الرقيق الذي يستخدم للف السجائر!
وإذا أردنا أن نصنع حريقاً لا يبقي ولا يذر، لن نكون بحاجة لكثير من القش أو الخشب، بل يكفينا أن نكون سوريين! فنحن مثل القش الناشف المتراكم في مستودعات التاريخ، ويمكن أن نكون خشباً جففته حرارة الصحراء، وبات ينتظر النار الحارقة!
ما يجري في جبال الساحل السوري من حرائق، وما يجري أيضاً في مناطق لبنانية متعددة من اشتعال للنار في الغطاء الحراجي، وكروم الزيتون والأشجار المثمرة، حدث مثله في المناطق السهلية حيث غطى دخان حرائق حقول القمح والشعير في كافة جهات سوريا قرص الشمس الحارقة في الصيف!
لكن الفلاحين ومعهم جمهور كامل من المتابعين، كانوا يدركون أن الشمس لا تستطيع أن تحرق محاصيل أساسية، مهمة كهذه، بهذا الشكل المرعب، إلا في ظل اكتمال قطعتين من (بازل، Buzzle) المشهد السوري التقليدي؛ رغبةٌ جرمية من أحد ما أو قوة عسكرية أو سياسية، تريد تدمير حياة الناس، وإرغامهم على الذهاب في خيار لا يرغبونه!
وأيضاً تواطؤٌ، أو عيون مغمضة من السلطات القائمة، تتخلى عن واجباتها، التي تتحملها بشكل طبيعي، طالما أنها تتسيدُ الأرض بقوة السلاح، فتترك السراق والنهابين، يسرقون، وينهبون، ويعيثون في الحياة حرقاً وفساداً!
الحرائق الراهنة إذاً، ليست بجديدة، وحتى في الساحل السوري ذاته، حدث ما يشبهها قبل شهر تقريباً، وقد أحيل السبب آنذاك إلى احتمالات تسبب الطقس الحار باشتعال الشرارة الأولى.
غير أن حرائق هذه الأيام تبدو مختلفة، وذلك قياساً بحجم الأذى الذي تتسبب به الآن. حيث اتسعت مساحات الأشجار المثمرة التي التهمتها، وكذلك حقول الزيتون، والثروة الحراجية، ما يهدد فعلياً مصادر رزق غالبية السكان الذين لم يعرفوا وطيلة حكم الأسدين من مهن سوى الزراعة، والعمل في أجهزة الدولة، ولاسيما منها الجيش والأجهزة الأمنية! ما يعني غياب التنمية بالمعنى الفعلي المتفق عليه اقتصادياً!
وتحال الحرائق الراهنة أيضاً في حيز اختلافها إلى وجود اتهامات فعلية إلى النظام والعناصر الإيرانية المتحكمة على الأرض، تفيد بقيامها بافتعال هذا الدمار كأسلوب ضغط على الوجود الروسي، الذي بات المتحكم الأساسي بما يجري في سوريا!
ويقول البعض أيضاً، إن الدوافع المضمرة في إحراق المناطق شبه الناجية من الدمار الذي حصل في عموم سوريا على يد النظام، لا تبرئ الروس أنفسهم، حيث تقاعسوا عن نجدة السكان وهم يستغيثون طلباً للطائرات كي تساهم في إطفاء الحرائق! إذ ما الذي يحتاجه أصحاب مشروع سلام من المقاس الروسي بتجاربه الكارثية في الشيشان والقفقاس والقرم، أفضل من أرض محروقة لجميع الأطراف المتصارعة، لجعلهم يقبلون جميعاً بما يقسمه لهم بوتين من حصص وجعالات، تنسيهم دم الضحايا، وحقوق الأبرياء، بعد أن صاروا كلهم متساوين بالخسائر من الأرواح ومن الأملاك؟!
وزارة أوقاف النظام الأسدي، وفي وسط معمعة الدمار المفزعة هذه، وأمام الصور التي ظهر فيها سكان القرى الساحلية يفرون من النيران التي تحاصرهم، دعت إلى صلاة استسقاء، سخر منها مؤيدوه قبل معارضيه، معتبرين أن ما يجري يؤكد عملياً نهاية وجود النظام حتى وسط ما يسمى مناطق نفوذه، فيما ذهب بعض هؤلاء إلى أن هذه الدعوة هي كارثة أخرى تضاف إلى غيرها، في واقع تراصفت فيه الفجائع حتى باتت سوراً يمنع الأمل والرجاء!
الأمطار التي طلبها المستجيرون بالطقس والغيوم، هطلت فعلياً على طرقات الصفحات الشخصية والعامة في مواقع التواصل الاجتماعي، التي تتكدس فيها الكراهيات، منذ عقد كامل، إذا لم نقل منذ كتب زكريا تامر مجموعته الثانية “ربيع في الرماد”، فالرجاء الذي يحمله هذا العنوان، انقلب فعلياً ليصبح رماداً في الربيع!
فأينما وليت وجهك في فيسبوك ستجد سوريان يتخاصمان، أو يقومان بتجريح بعضيهما، فضلاً عن صناعة لخطاب الكراهية مستمرة على مدار الساعة بسبب من وجود نظام الأسد ذاته، الذي قسم المجتمع كله، فصار شعار الكل؛ إما معنا أو ضدنا!
لقد عصفت موجة عارمة من التعاطف مع الأشجار المحترقة، ومع أصحابها، ببؤر كرست نفسها تاريخياً لإفساد الوجه الحقيقي لثورة السوريين، الوجه الذي نادى بالشعب السوري الواحد، وفكك عقدة طائفية النظام، عبر النظر إلى وجود “طائفة للنظام”، تعبر الطوائف، وليس طائفة محددة!
ولعلها واحدة من المرات القليلة التي يلتصق فيها خطاب السوريين اللاجئين المنفيين مع رؤية أولئك الذين بقوا في وطنهم، مع استعادة حميمية لجوهر كلام تحدثت به شخصية سورية صارت من أيقونات الثورة هو العقيد أبو فرات يوسف الجادر، عن أن أسلحة السوريين عزيزة على السوريين، فهي ملكهم وليست ملكاً للنظام! وما يجري على الأسلحة يجري على الأشجار، وعلى كل شيء!
ولكن هل كانت هذه الموجة من الأمطار المعنوية كافية لإزالة تكدس الكراهيات على الطرق الواصلة بين السوريين؟
طبعاً، لن يكون الجواب بالإيجاب، إذ لن يصلح لا “العطار” ولا “الحداد”، ولا نقاء سريرة المتعاطفين، ما أفسده تاريخ كامل من صناعة الكراهية والبغض بين سكان البلد الواحد!
ففضلاً عن وجود أسباب قائمة لم تتزحزح قيد أنملة، أولها وجود النظام الذي فتك بالسوريين الثائرين، قتلاً وسجناً وتهجيراً ونفياً، وكذلك استشراس التنظيمات المتطرفة على الأرض، وهي التي لم توفر بدورها في “جنات” سيطرتها أي وجه من وجوه الثورة المدنية الديموقراطية دون أن تسجنه أو تطرده في حال لم تقتله!
ثمة تيار “ثقافي” راسخ، يكرس خطاباً تعميمياً كريهاً، تفوح منه رائحة الموت، يدعي الجذرية ولاسيما الرفض المسبق لأي حراك سياسي يؤدي إلى حل ما، ولكنه في الواقع يؤدي إلى العدمية، والبقاء في دوامات العنف المتناسلة!
هذا التيار، كان قبل أيام قليلة يضع الشاعر أدونيس في قاع بئر الكراهية، بناء على انتمائه الطائفي، وليس بناء على مواقفه السياسية، التي تتشابه مع مواقف آخرين، من الأدباء المؤيدين للنظام من طوائف أخرى!
ولم يفوت الفرصة، لبث روح الشماتة بين جمهور المعارضين، وكأنه يقول إن على الجميع أن يذوقوا من ذات الكأس، وبذات الدموية، دون أن يدري من اتبعه أنه يرتكب حماقة مدمرة، حينما يساوي بين خطابه وخطاب القتلة، فيصبحان متعادلين في الجرائم والمسؤولية!
تيار لا يتواجد فقط على ضفة واحدة من ضفاف المستنقع، يدعي بعض أصحابه بين مقالب المعارضات المختلفة، النقاء الأخلاقي، ويحتكرون الوطنية، فيجرمون الآخرين، بالعمالة، والارتزاق، ويمسخون التعاطف ذاته، ليصبح في خطابهم مجرد كذب ونفاق، واضعين أنفسهم في موقع القضاة، بعد أن افتتحوا لأنفسهم مخافر أخلاقية مفصلة على المقاس!!
الكاتب : علي سفر/ المدن