قد يبدو السؤال غريباً للوهلة الأولى، لكنه في علم الاحتمالات والعلاقات الدولية ومبادئ السياسة أمراً وارداً ومحتملاً وممكناً ، وخاصة بعد الانعطافات التركية الأخيرة والانفتاح والتوجه نحو حل الخلافات التركية المصرية والتركية السعودية بوتيرة متسارعة، فالعلاقات الدولية لا تُبنى على العواطف بل المصالح هي التي تحركها وتحكمها. القاعدة الذهبية التي يرددها الدبلوماسيين دائماً تقول :”لا توجد خصومات دائمة بين الدول ولا صداقات دائمة بل هناك مصالح دائمة”. من المؤكد أن مثل هذا السناريو ليس هو خيار تركيا الأول على الأقل ،لكنه ليس الخيار المستحيل فعلم السياسة لا يعرف مثل هذه المستحيلات.
قبل خمسة أعوام سألتُ مثل هذا السؤال وقلت ماذا لو وصلت لتركيا في يوم من الايام لمرحلة أو قناعة تستوجب التنازل عن الملف السوري لأجل الحفاظ على تركيا!؟ وذكرت حينها حالة الغرغرينة التي تصيب القدم ونقرر نحن الأطباء بتر القدم والتضحية والتخلي عنها من أجل حماية الجسم والحفاظ عليه. وقد ينطبق هذا أيضاً على علم السياسة والمناورات الدولية والتاريخ حافل بمثل هذه التكتيكات والمناورات والتنازلات.
اليوم وبعد التقارب التركي المصري والتركي السعودي، ربما اصبح الفريق الذي كان يرفض مثل هذه الاحتمالات ليس بتلك الحدة وعدم القبول حتى بمجرد الاحتمال النظري أو من باب العصف الذهني، وأصبح لا يرفض مناقشة مثل هذه الاحتمالات ولم يعد يعارض مبدأ الفكرة بل يطالب بانتظار التوقيت المناسب معللاً ذلك بالتنسيق الحاصل حالياًمع حاكم سوريا الفعلي وهم الروس.
لكن السؤال الذي يجب أن يطرح احتجاجاً على عنوان لمقال ،هو ماهي مبررات هذا الاحتمال وماهي الظروف والمصالح التي قد تجعل تركيا تنحو مثل هذا التوجه وتصل لمثل هذه القناعة..؟
وبرأيي هذا هو السؤال المنطقي الذي يجب ان يقوم بطرحه السوريون المعترضون على هذا الاحتمال، من سياسيين ومنظمات وأحزاب وأفراد ، وأن يقوموا بعمل ورشات عمل جماعية أو فردية، وعصف ذهني، ومراجعة حقيقة ونقد ذاتي بناء لأنفسهم ومواقفهم وتصرفاتهم وسلوكياتهم، خاصة الجماعات الاسلامية والعسكرية منها بشكل أخص.
يُحمّل كثير من السوريون تركيا توريطهم بالاندفاع والحماس والاستمرار بثورتهم،لأنها رفعت شعارات عالية السقف وخطوطا حمراء لم تستطع الايفاء بها، وتُحمّل المعارضة التركية أيضاً الحزب الحاكم تسببه بما حدث من هجرة ونزوح ودمار بسوريا لأنه دعم المعارضة ووقف مع الشعب السوري بثورته.
وهذا برأيي هذه الأكم فيها اجحاف وعدم انصاف من قبل الطرفين، فالمعارضة التركية تحكم على الموقف من خلال النتائج ، رغم معرفتها بحقيقة الواقع . وهنا يمكن أيضا أن نشير لفشل السوريون بتواصلهم مع الاحزاب المعارضة وعدم قدرتهم على تغيير بعض قناعات ومواقف هذا المعارضة.
أما عتب السوريون على تركيا وتعليق الفشل عليها وتحميلها وزر ما حدث فهو دليل على هشاشة الوعي الفكري السياسي عند السوريين -على الاقل في تلك المرحلة- وحجم مرض التعويل على الغير وارتفاع درجة التفكير العاطفي الخيالي .
أين نحن اليوم بعد عشر سنيين من الثورة السورية واربعة ملايين لاجئ سوري بتركيا !؟
وماهي التحديات التي تقف أمام تركيا داخليا و خارجيا حتى تجعلها “قد” لا تستبعد مثل هذا السناريو!؟
أولاً: التراجع الدولي عن الاهتمام بقضية الشعب السوري
تكاد اليوم تركيا هي الوحيدة التي تقف مع عدالة قضية الشعب السوري ،وتتقاطع مصالحها معه بتحقيق وبناء دولة العدالة والحرية والاستقرار وقد حافظت على وحدة ترابها…
لكن أين ما يسمى بأصدقاء الشعب السوري وأين الدول العربية التي كان وزراء خارجياتها يتكلمون عن سقوط الاسد وكأنه حقيقة محتمة..
أين تصريحات أمريكا وأين الاتحاد الأوربي ..لم يبق من ذلك أثر..
ثانياً: الاحتلال الروسي لسوريا وبناء القاعدة الروسية بطرطوس والهيمنة على حوض البحر المتوسط
فرغم العلاقات التي تزداد متانة وتشابكاً مع الجار الروسي في ملفات كثيرة وكبيرة وعلى مستويات عديدة، لكن هذه العلاقات تظل هشة وتخضع لمزاج وضغوطات الطرف الروسي ، وتركيا التي تحاول الانعتاق من الاملاءات الامريكية لا تريد أن تحبس نفسها بالارتباط مع دولة أصبحت جارتها عسكريا وتتحكم بسوريا التي لها معها أكبر حدود برية.
ثالثاً: البعبع المخيف والسناريو الأسوأ لتركيا وهو تقسيم سوريا وقيام الدويلة الكردية .
هذا ما يقلق تركيا بشكل مباشر وهذا ما تعمل عليه أمريكا بخطوات متلاحقة رغم علاقتها الاستراتيجية “كما يقال” مع حليفتها الأكبر تركيا بحلف الناتو . هذا الملف هو الذي يفسد العلاقة التركية الأمريكية بشكل مباشر، وهو الذي يُجبر تركيا للقيام بتحركات عسكرية تزعج وتتحدى الطرف الأمريكي وتغضبه مما يولد تشنج بالعلاقات بينهما، ينعكس على كثير من الأمور وفي مقدمتها الوضع الاقتصادي، وخاصة أن تركيا مقدمة على انتخابات مصيرية بالنسبة للعدالة والتنمية والرئيس أردوغان. وخسارة هذه الانتخابات يعني خسارة كل شيء…
فتقسيم سوريا حالياً يعني تقسيم تركيا لاحقاً
وأي سناريو يحقق ويضمن بقاء سوريا موحدة ويحافظ على حدودها الحالية، هو الخيار الأول لتركيا ، والأولوية الأولى ومن ثم يأتي بعد ذلك أهمية شكل الحكم ومَن سيكون الحاكم لسوريا.
يعني الحفاظ على حياة المريض أولاً ومن ثم معالجة التشوهات، ودرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة…
رابعاً: الوضع الداخلي التركي السياسي والاقتصادي
لم تعد الأصوات المطالبة بضرورة إعادة فتح العلاقات مع دمشق من أجل الحفاظ على وحدة الاراضي السورية وحلحلة عودة اللاجئين لم تعد مقصورة على أصوات المعارضة فقط، بل بدأت أصوات مقربة من الحزب الحاكم إن لم تطالب بها مباشرة ،فلم تعد تعارضها بشدة، بل بدأت تبحث عن الحل الذي يحفظ ماء الوجه لعودة العلاقات وتبرر عدم الحاجة لعودتها حالياً، كون تركيا تتواصل مع روسيا الحاكم الفعلي لسوريا.
انتقاد المعارضة اللاذع يوميا وتحميل الحزب الحكام الفشل بالملف الخارجي، وتسببه بدخول تركيا هذا العدد الكبير من اللاجئين، واستقبال تركيا للمعارضات العربية وخاصة الجماعات الاسلامية، جعل تركيا على علاقة غير جيدة مع الغرب وبعض الدول العربية،وحَمَّل تركيا عبئاً اقتصاديا ، مما يستلزم اعادة النظر بالسياسة الخارجية واعادة العلاقات مع الأنظمة الموجودة من اجل تخفيف أضرار تركيا الاقتصادية وفك عزلتها.
مطالبة الحزب الحاكم أن لا يكون ملكاً أكثر من الملك، طالما أن الغرب وأمريكا وروسيا لا يعارضون هذه الانظمة فليس من المنطق والواقعية أن تظل تركيا الدول الوحيدة المعارضة بالميدان ….
آخر استطلاع للرأي يشير أن 46.3% من الأتراك يؤيد التواصل مع نظام الأسد وحل القضة السورية مقابل 36.1% ليسوا مع ذلك.
خامساً: فشل المعارضة السورية السياسية والمدنية بإدارة الملف السوري بشكل يخفف الحمل التركي ويعطي البديل الذي يمكن التعويل عليه ودعمه أمام العالم الخارجي.
صحيح أن أعداء الشعب السوري كانوا كثر ،والعالم كله تآمر عليهم، وأمريكا لم تُرد اسقاط الأسد، وروسيا منعت سقوطه، وصحيح أن القضية السورية خرجت من أيادي السوريين منذ فترة طويلة ،نظام ومعارضة.
لكن كل هذا لا يعفي السوريين من الأخطاء الجسيمة التي ارتكبوها – ولايزالون – بحق أنفسهم وثورتهم وبلدهم وشعبهم.
واكبر دليل على فشلهم تشرذم المعارضة ، وعدم وجود الرؤية الواضحة ، وعدم امتلكهم لخارطة طريق متفق عليها، وعدم وجود الممثل الذي يقود الثورة والشعب ويوجههما وقد نال ثقة ودعم وتأييد الشارع له.
ونظرة لحال وضعهم الداخلي والخارجي تكفي لمعرفة نتائج حصادهم ، فواقع الحال بمحافظة ادلب والمناطق المحررة الاخرى يختزل حال المعارضة وفقدان ثقلها ومصداقيتها وفشلها بتشكيل البديل الناجح الذي يحرج العدو يحرجه، ويُقنع السوريون قبل الصديق بدعمهم والمضي خلفهم.
ولكي لا يظن البعض هذا مجرد جلداَ للذات نذكر بأهمية العنصر الداخلي بكل ثورة وحركة تحرر وأي محور وسناريو وقضية، فبدون أبناء البلد الأصليين لا يمكن لأي قوة خارجية أن تجد لها موطئ قدم على المدى القريب والبعيد ،وهذا يحمل السوريون مسؤولية ترتيب بيتهم الداخلي بدون تدخل واملاءات الخارج حتى يستعيدوا زمام الأمور ويكونوا عنصرا مؤثرا وفاعلاً لا هامشيا مجرد منفذً لما يقرره الآخرون نيابة عنه.
أمام كل هذه الضغوطات والتحديات والتغيرات تبحث تركيا عن الجهة التي تستطيع منع سوريا من التقسيم والحفاظ عليها موحدة ضمن حدودها الحالية ،لأن عدم تقسيم سوريا يعني اسقاط السناريو الأخطر الذي يهدد أمن وبقاء تركيا.. ومن ثم يأتي الحديث عمن سيحكم وكيف سيحكم سوريا.
برأيي ما يمنع تركيا من التواصل مع نظام دمشق الحالي، هو قباحة وجه النظام، وسجله الاجرامي البشع، وتوغله بالدماء السورية، وعدم قابليته للتغير واستعصاءه على الاصلاح.
ورغم كل هذا ترى تركيا التواطؤ الغربي الأمريكي ،والاصرار الروسي، والتخاذل العربي تجاه هذا النظام وتشعر بأنها أصبحت الوحيدة التي تحملت أعباء كل ما حدث ويحدث بسوريا.
قد يبدو أن الحل الممكن اليوم ضمن هذه الظروف والتحديات هو صيغة لا غالب ولا مغلوب ،التي تسعى تركيا لدعمها من خلال لقاءات سوتشي والاستنانة رغم الفشل الذريع الذي لحق بتلك المباحثات بسبب تعنت النظام بدعم روسي ايراني وعدم ابداء أي مؤشر لنيته أن يكون جزءً من الحل ،فكل ما عمله هو تمييع وإطالة المباحثات لكسب الوقت ومنع أي اتفاق.
مجرد تغيير شكلي بوجه النظام وازاحة الشخصيات التي لم يعد التعامل معها مقبولاً ومعقولاً، يعني تغيير سطحي وليس جوهري قد يكفي هذا الأمر تركيا لفتح شكل من التعامل الجديد ويسهل عودة بعض اللاجئين قبل الانتخابات المصيرية القادمة بالعام 2023 يعد مكسباً هاماً لا يمكن التفريط به.
تركيا اليوم تواجه جرحا كبيرا في سوريا حيث اجتمع كل خصومها واعداءها – من الشرق والغرب – على الأرض السورية وهم يعملون على سناريوهات كلها لا تخدم مصلحة تركيا بل تهددها ،المشروع الايراني الايديولوجي ، والفرنسي الاستعماري ، والروسي الاحتلالي ، والأمريكي التقسيمي كلها مشاريع تقلق أنقرة وتقض مضجعها لأنها كلها مشاريع تمس أمن وبقاء ومستقبل تركيا بالمنطقة برمتها.
منذ سنيين وأن أصف الدور التركي بأنه القوة المعرقلة للسناريو الأسوأ ،وهي تعمل بسوريا اليوم على كافة المستويات واستعداداً لكل السناريوهات حتى السناريو الذي لا تتمناه وهو تقسيم سوريا..
لكن السؤال الأهم هنا كمحصلة لهذا المقام هو أين أصحاب الدم وأصحاب الثورة من هذه السناريوهات والاحتمالات ولو كانت مجرد عصف ذهني …!؟
د.مصطفى حامد أوغلو _ ترك برس