سيريا برس _ أنباء سوريا
الكاتبة : رشا عمران
كنتُ، في عام 1981، أتهيأ للذهاب إلى إحدى دول أوروبا الشرقية لمتابعة دراستي الجامعية فيها، بناءً على رغبة أسرتي التي رأت وقتها أن سفري هو الحل الوحيد لأنتهي من علاقة حبٍّ لم تكن أسرتي راضية عنها، وأبدأ مستقبلا لا مكان فيه للشاب الذي أصبح لاحقا زوجي ووالد ابنتي الوحيدة. ولكن لظرفٍ ما، لم تنجح تلك الخطة، لم أتمكّن من السفر، ولم أتابع دراستي الجامعية وقتها، وتزوّجت سرا من الشاب الذي رفضته عائلتي، ثم بعد سنوات قليلة جدا أنجبت ابنتي، ثم طلبت منه الطلاق، بعد أن اكتشفت أن قراري المراهق كان خاطئا جدا، وأننا لا نصلح للعيش معا، ثم سارت حياتي على ما سارت عليه لاحقا.
رحل والدي عام 1996 عن هذا العالم. كان شاعرا معروفا في سورية وفي الأوساط الثقافية العربية، وكنت متعلقةً به شاعرا وأبا، خصوصا في سنوات حياته الأخيرة حين عشت فترة من حياتي أنا وطفلتي، معه ومع والدتي. تلك الفترة، وقبلها، كنت أكتب كثيرا، من دون أن أُطلع أحدا على ما أكتبه. كان والدي يردّد دائما إنني قد أنجح في كتابة الرواية، إذ كانت لديّ ذاكرة قوية تخزن أدقّ التفاصيل. كان يعرف هذا جيدا عني، ويعرف مقدرتي على السرد في أثناء الحوار مع أحد. لكنني كنت أكتب الشعر، ولم أقترب من الرواية. رحل والدي من دون أن يعرف أنني كنت أكتب شعرا. لم أنشر كلمة واحدة في حياته. كنت أخاف من رأيه، وكنت أخاف من إرسال أي نص للنشر وهو على قيد الحياة. خشيتُ أن أقارَن به، وخشيت من المحاباة: أن يتم نشر نصوصي لمجرّد أنني ابنته، لا لأن نصوصي تصلح للنشر. نشرت بعد وفاة والدي بأقل من عامين أول كتاب لي. وتبيّن أنني لم أكن مخطئة، إذ تم الاحتفاء بالكتاب بوصفي ابنة الشاعر الراحل، لا بصفتي شاعرةً واعدةً تُعرف باسمها الشخصي، لا باسم والدها.
كتبتُ يوما ما عن هذا: لو أن والدي بقي على قيد الحياة، لو أنه لم يرحل باكرا، كان مسار حياتي سيتغيّر حتما، لما كنتُ تجرّأت ربما على إشهار ما أكتب ولا على النشر، ولكنت بقيت في الظل، مجرّد ابنة الشاعر ذات الشخصية القوية التي يعرفها الجميع بوصفها ابنته، لا بوصفها ذاتا متحققةً بنفسها ولنفسها، ولربما كنت تزوّجت مرة ثانية وأنجبت أبناء آخرين، ولكانت حياتي ذهبت نحو اتجاه آخر تماما، قد لا يشبه بشيء ما هي عليه الآن. موت الآخرين الذين نحبهم أحيانا يشبه هدية القدر، على الرغم من كل ما يسببه من ألم وحزن لنا. يذكر ميلان كونديرا ما يشبه ذلك في روايته القصيرة “الهوية” على لسان بطلة الرواية، وهي تقف أمام قبر ابنها الصغير المحبوب الذي رحل إثر مرضٍ ألمّ به، وجعل حياتها كلها تدور في فلك طفلها ومرضه وعلاجه.
عند انطلاقة الثورة في سورية، في عام 2011، اخترت الوقوف إلى جانبها. كنت متحمّسة جدا للتغيير، وسعيدةً بما كان عليه شباب سورية وصباياها. وقّعت بياناتٍ وكتبت مقالاتٍ وخرجت في قليلٍ من المظاهرات. وساهمت مع صديقاتي في إيصال وسائل الحياة إلى المناطق المحاصرة. وبدأت أشعر بالتغيرات التي تطرأ على شخصيتي مع ما يحدث في سورية، إلى أن طُلب مني، بشكل رسمي، في أواخر 2011، مغادرة سورية تحت طائلة الاعتقال أو إعادة اعتقال ابنتي، (كان هذا امتيازا لم يُتح لآخرين كثر، لأسباب لها علاقة بمنبتي البيولوجي، وباسم والدي الذي كان، مثل كثيرين من مثقفي جيله، مقرّبا من السلطة). وخرجتُ من سورية طبعا، بعد أن تمكّن الخوف مني، واتّخذت حياتي مساراتٍ لم تكن تخطر لي يوما! أفكّر أحيانا لو أنني، وقت انطلاق الثورة، بقيت صامتةً، ولم أعلن موقفا موجّها مباشرة ضد النظام، وبقيت في سورية: ما هو الشكل الذي ستكون عليه حياتي وسط كل ما يحدث؟
أتذكّر المفاصل المهمة في حياتي، وأنا أنتهي من قراءة رواية “1234” للروائي الأميركي بول أوستر، بترجمةٍ جميلةٍ جدا للسوري أحمد الأحمد، وصادرة عن منشورات المتوسط. تتحدّث عن أربعة مسارات مختلفة لشخصية بطل الرواية، فيرغسون، الولد الوحيد لكل من روز وستانلي فيرغسون. وأفكر أن لكل كائن بشري احتمالا لمسارات حياة مختلفة، مثل فيرغسون، فلولا المصادفة واللحظة الزمنية والتاريخية والقرارات الشخصية، والقدر أحيانا كثيرة، ولولا إدراكنا أهمية امتلاك القيم الإنسانية والأخلاقية الكبرى التي تجعل حياتنا تسير في مسارها الحالي.
المصدر: العربي الجديد