فيما يستمر النظام السوري في استخدام الأسلوب الوحيد الذي يُتقنه في حل أزماته، ومحاولة إخضاع المجتمعات المحلية المتمرّدة على إرادته، كما يفعل الآن في درعا، باستخدام العنف الذي يلجأ إلى المزيد منه عندما لا ينفع قليلُه، يتداعى سؤالٌ مهم عن معنى أن يطرح النظام ما يسعى إلى تحقيقه في إطار “استعادة سلطة الدولة وسيادتها”، في وقتٍ لم يتبقَّ من مظاهر الدولة نفسها ما يسمح لها بالاحتفاظ بصفتها هذه، فالدولة، أي دولة، تقوم على أركانٍ أربعة رئيسة، لا تكتسب صفاتها إلا بها: الشعب، فلا دولة بدون شعب تجمع بين أفراده روابط معينة، والإقليم، أو الأرض المحدّدة بحدود واضحة، والسلطة، أو الحكومة التي تمثل الشعب وتعبر عن إرادته أو عن مصالحه، والسيادة التي تحوز الدولة من خلالها السيطرة الكاملة غير المنقوصة على أراضيها ومياهها وأجوائها، وهناك من يضيف إلى ذلك “الاعتراف الدولي” باعتبار أن الدولة المعاصرة لا يمكن أن تقع خارج إطار التنظيم الدولي أو، بحسب بعضهم، “المجتمع الدولي” الذي تحكمه أنظمة وقوانين وأعراف وقيم متفق عليها تنظم العلاقة بين أعضائه.إذا أخذنا كل ركن من أركان الدولة التي يدّعي النظام السوري سعيه إلى استعادة سيادتها وناقشنا ما صار إليه، نجد التالي: أولًا، الشعب.
لم تعد الدولة السورية تضم مجموعة منتميةً ومترابطةً من الناس، تجمعهم هموم ومصالح مشتركة، إذ تشظّت الهوية الوطنية، وصار الشعب، نتيجة الأزمة العنيفة الطويلة، شعوبا (طوائف، وعشائر، وقوميات …إلخ) تستمد دعمها وتمحض ولاءاتها لمرجعياتٍ تقبع خارج حدود الدولة. هذا عن الانتماء، والقدرة على العيش المشترك، أما إذا أخذنا الإقامة معيارا، فنجد أن نصف الشعب السوري مشرّد، يعيش خارج وطنه أو بعيدا عنه.
النصف الآخر الذي بقي في مكان إقامته يجد صعوبةً في تأمين قوت يومه، دع جانبا توفير بقية الخدمات كالماء والكهرباء والوقود وغيرها، وما الوطن إذا افتقد المواطن فيه أمنه وقوت يومه، وما الدولة إذا عجزت سلطاتُها عن تأمين مقومات البقاء لمواطنيها.
أما الإقليم، وهو الركن الثاني من أركان الدولة، فقد بات هو الآخر مقسّمًا، إذ يبسط النظام، المدعوم إيرانيا وروسيا، سيطرته على نحو 60% من الجغرافيا السورية، وتسيطر قوات سوريا الديموقراطية (قسد)، المدعومة أميركيًا، على نحو 30%، وتقتسم فصائل المعارضة الـ 10% المتبقية، في إدلب حيث هيئة تحرير الشام، وفي مناطق أخرى في الشمال تسيطر فصائل أخرى مدعومة تركيًا.
أما قضية السلطة أو الحكم فهي أعقد قليلا من ذلك، صحيح أنه يمكن في العموم القول بوجود أربع سلطات تقتسم السيطرة على الأرض والناس والموارد في سورية هي: النظام والإدارة الذاتية، والحكومة المؤقتة التي تتبع المعارضة، وحكومة الإنقاذ التي تتبع هيئة تحرير الشام في إدلب، لكن الواقع يشير إلى وجود عشرات التنظيمات والمليشيات المحلية والأجنبية التي تمارس وظائف الدولة، ابتداء من الأمن وإدارة الشؤون البلدية والمحلية، وصولاً إلى جباية الضرائب وفرض الإتاوات ورسوم العبور.
أما السيادة، وهي الركن الرابع من أركان أي دولة، فهي منتهكة كليا في سورية، نتيجة تدخل، أو وجود، خمسة جيوش أجنبية على الأرض السورية: روسيا، الولايات المتحدة، وتركيا وإيران، وإسرائيل، فضلا عن وجود آلاف المقاتلين الأجانب المنتظمين في صفوف مليشيات تقاتل إلى جانب النظام، والأكراد، وتنظيم الدولة الإسلامية، وغيره من الفصائل والجماعات.
ورغم أن النظام مازال يتمتع بالاعتراف القانوني الدولي باعتباره ممثلا للدولة السورية، وهذا أمر يعطيه ميزة على بقية السلطات التي تقيم معه على الأرض، إلا أنه معزول، محاصر، ومنبوذ من مجتمع الدول، نتيجة خروجه على كل القوانين والأعراف والقيم المتفق عليها في نادي الدول.
يطمح السوريون جميعا، بالتأكيد، إلى استعادة دولتهم المستقلة التي تمارس فيها السلطة المنبثقة عن إرادتهم الحرّة سيادتها غير المنقوصة على أراضيها، وتحتكر استخدام العنف في إطار القانون بما يحقق النظام العام ويحفظ أرواح مواطنيها، لكن هذا لن يتحقق من خلال العنف الأعمى، أو الروح الانتقامية، حيث تغدو الدولة عدوا لمواطنيها، بل من خلال عقد اجتماعي رضائي تستعيد الدولة فيه شرعيتها مدخلا لا بديل عنه نحو استعادة سيادتها واستقلالها ووظائفها التي تمحضها صفة الدولة.
مروان قبلان _ العربي الجديد