تحقيق استقصائي يكشف عن تفاصيل العقود التي سيطرت روسيا بموجبها على قاعدة حميميم الجوية في سوريا، وحجم الانتهاكات واستخدام موارد الدولة السورية دون مقابل، وأثر الأعمال العسكرية على المحيط من المدنيين صحيًا واقتصاديًا وأمنيًا |
وأنت تزور الساحل السوري، وتحديدًا في الوسط قرب جبلة، ومهما كان الاتجاه الذي تسلكه، سواء طريق القرداحة، أو جسر جبلة الثاني، على الطريق الدولي (أوتوستراد اللاذقية ـ طرطوس)، إنتبه.. أنت قرب حميميم، القاعدة الجوية الروسية التي تعرف اليوم بأنها “دولة داخل دولة”.
تحيط بالمكان حواجز المخابرات العسكرية و”أمن الدولة”، وعلى كل حاجز ليس عليك فقط إبراز البطاقة الشخصية، بل والإجابة عن أسئلة حاسمة: أين الوجهة؟، ما اسم الشخص الذي تقصده وعمله ومكان إقامته بالضبط؟، والفشل في الإجابة يعرض صاحبه لاعتقال شبه مؤكد.
الآلاف من سكان القرى المحيطة يدفعون ضريبة الزائر “المستوطن”، خلال تنقلهم وممارسة نشاطهم الاقتصادي اليومي، وحتى نومهم وصحّة أطفالهم.
لا يجرؤ أحد من السكان، أو حتى من موظفي الدولة، وصولًا لدوائرها الرسمية على انتقاد وجود القاعدة علنًا، إذ تبقى الأحاديث في السرّ، خصوصًا تلك المتعلّقة بخفايا اتفاق تسليم القاعدة للروس وملحقاتها، وأثرها القانوني.
القصة منذ البداية
حتى سنوات قريبة بقيت “حميميم” بلدة صغيرة، غير معروفة، على بعد أربعة كيلومترات شمال غرب مدينة جبلة في محافظة اللاذقية، وعام 1956 صدر قانون إنشاء مطار حميميم، وحمل رسمياً اسم مطار اللاذقية الدولي (إياتا: LTK، إيكاو: OSLK)، قبل أن يتم تغيير الاسم إلى مطار “الشهيد باسل حافظ اﻷسد”، عام 1995.
وبعد أن اختارت القوات الروسية المتدفقة إلى سوريا صيف العام 2015 المطار، وجزءاً من المناطق المحيطة به، مقراً لقاعدتها، أصبح اسم حميميم محط اهتمام عالمي، حيث القاعدة الروسية اﻷولى التي تبنى في الشرق اﻷوسط، والقاعدة العسكرية اﻷجنبية اﻷولى واﻷكبر مساحةً في سوريا، ومزوّدةً بالكثير من التقنيات العسكرية الجديدة واﻷسلحة والجنود والتغطية اﻹعلامية.
في 26 من آب 2015، جرى إبرام اتفاق بين روسيا وسوريا لإنشاء قاعدة على الأراضي السورية لفترة غير محددة لاستغلالها من طرف القوات المسلحة الروسية، وفقاً لمعاهدة “الصداقة والتعاون بين الاتحاد السوفيتي والجمهورية العربية السورية” الموقعة في 8 من تشرين الأول 1980.
بعد ذلك بعامين، واستنادًا إلى الاتفاقية السابقة، وقع الكرملين عقد إيجار جديد طويل الأجل للقاعدة مع دمشق لمدة تسعة وأربعين عاماً، وتمدد تلقائيًا لفترات لاحقة مدتها 25 عامًا، ويتم بموجبه نقل قطعة الأرض التي يقام عليها المطار إلى الملكية الروسية طيلة مدة العقد.
وجاء توقيع اتفاق نقل أرض حميميم إلى الملكية الروسية بالتزامن مع توقيع اتفاقية، تضمنت أيضا استغلال روسيا لميناء طرطوس جنوباً، لإنشاء قاعدة بحرية، وقد ترافق توقيع عقد إيجار القاعدة مع لغط كبير بأنها وُهبت من قبل دمشق لروسيا دون أي مقابل مالي، ودون توضيح رسمي من اﻷخيرة.
القاعدة تتمدد غربًا
في 24 نيسان 2020 جرى توقيع اتفاقية جديدة بناء على البروتوكول رقم 1 الموقع عام 2015، وتنص هذه الاتفاقية على نقل قطعة أرض مع مساحة مائية على الساحل السوري، في محافظة اللاذقية، قبالة قاعدة حميميم الجوية، “من أجل إنشاء واستضافة مركز طبي صحي وتأهيل لمجموعة الطيران الروسي (قاعدة حميميم)”، ويحق لروسيا، بناء على بنود العقد الجديد، إزالة عقارات وأبنية وتنفيذ عمليات هندسية وفق شروطها.
تبلغ المساحة الجديدة التي يبتلعها الاتفاق، ثماني هكتارات (80 ألف متر مربع)، وتمتد في المياه وعلى الشاطئ البري بعمق 65 إلى 150 مترًا، علمًا أن النص احتوى على ملاحق سرية حول مخططات ورسم بياني مدعّم بالإحداثيات، وهو بذلك يحدد المنطقة بدقة.
يتكهن بعض أهالي المنطقة، حول طبيعة المساحة البحرية التي سيستولي عليها الروس بعد اتفاق 30 من نيسان 2020.
ويشير أحد الناشطين في حماية البيئة البحرية في المنطقة، طلب عدم الكشف عن اسمه، إلى أن القطعة البحرية ستكون على الشاطئ الرملي الفاصل بين جنوب مدينة اللاذقية وشمال مدينة جبلة، أو ما يعرف بشاطئ الشقيفات، وهذا يعني أن الإجراءات الأمنية ستنتقل إلى الرئة التي يتنفس منها سكان الساحل في القرى الممتدة في تلك المنطقة، وهو ما يتسبب بضرر اقتصادي، يوازيه ضرر بيئي، باعتبار أن المنطقة تشكل موئلًا للسلاحف البحرية، وأن إجراء إنشاءات وأبنية، مثل النوادي والمراكز الطبية سيترك اثرًا بيئيًا يزيد من الأخطار التي تتعرض لها السلاحف، والتي تراجع معدّل تعشيشها في المنطقة بشكل كبير بسبب العبث والتلوث وتجريف الرمال.
رصد التحقيق المنطقة البحرية المقابلة للقاعدة على طول ساحل مدينة اللاذقية، عبر المعاينة والأقمار الصناعية، ولم يلحظ أي تحركات لآليات أو حركة إنشائية في المنطقة عامة والمنطقة البحرية المقابلة خصوصًا.
التوسعة وتعزيز القدرات
بعد سيطرتها على المطار، عمدت روسيا إلى توسعته ليكون قادرًا على استقبال أكبر الطائرات العسكرية والمدنية.
واعتباراً من العام 2015، تمت إعادة بناء أجزاء كبيرة من المنشأة بشكل فعال أو تحسينها بشكل كبير، بما في ذلك مرافق طائرات الهليكوبتر الموسعة، والبنية التحتية الداعمة، والدفاعات الجوية والبحرية.
أصبحت القاعدة نقطة انطلاق وسيطة لمقاتلات MiG-29 Fulcrum، وطائرات Su-24 Fencer القتالية التي أرسلتها روسيا إلى ليبيا لتعزيز ودعم القوات المتحالفة مع الجنرال خليفة حفتر.
وشملت عمليات التوسعة في القاعدة إضافة منحدر تبلغ مساحته 76 متراً مربعاً مع إمكانية الوصول المباشر إلى المدرج الشرقي الذي تم الانتهاء منه العام 2016، إضافة إلى صف من ملاجئ الطائرات المحصنة في الزاوية الشمالية الغربية للمنشأة بنيت بين العامين 2018 و 2019 بغاية الرد على التهديد بهجمات الطائرات بدون طيار وغيرها من الأسلحة النارية غير المباشرة.
في مرحلة لاحقة، التقطت الأقمار الصناعية صورًا تظهر عمليات توسيع أحد المدارج الرئيسية في قاعدة “حميميم” (المدرج الغربي) في خطوة من شأنها زيادة الطاقة الاستيعابية للقاعدة، وتسهيل عمليات النقل اللوجستية والاستراتيجية للروس في منطقة الشرق الأوسط.
موقع “The Drive” المتخصص في شؤون الحرب والدفاع، نشر الصور في شباط 2021، قائلًا إنها تدل على قيام الروس بإضافة نحو 300 متر للمدرج الغربي في القاعدة الجوية، ليمتد طوله الإجمالي بذلك إلى 3200 متر، مقارنة بنحو 2900 متر سابقاً.
وهو ما لم يكن أمراً مخفياً، إذ أنّ وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو قال في اجتماع موسع لهيئة رئاسة وزارة الدفاع الروسية في 12 شباط 2021، إنه تمّ “إنجاز العمل على زيادة طول المدرج الغربي في هذا الموقع العسكري”.
عملية التوسعة تشمل المدرج الغربي، وتمت في الجهة الشمالية الغربية باتجاه قرية بطره التابعة لبلدة حميميم، ورصد التحقيق، عبر صور الأقمار الصناعية، منطقة توسيع المدرج شمالا وجنوبا.
لم تحصل التوسعة خارج حرم المطار، بقدر ما كانت عملية ترتيب للمطار نفسه، ليصبح أكثر اتساعاً وقدرةً على الاستيعاب
نقل السلاح والمرتزقة
منذ عام 2015 ، استُخدمت قاعدة حميميم الجوية أيضًا لإيصال مرتزقة “مجموعة فاغنر”، ليس فقط إلى سوريا للمشاركة في المعارك إلى جانب بشار الأسد، ولكن أيضًا في ليبيا والسودان وجمهورية إفريقيا الوسطى، والأحدث كان دخول حميميم على خط نقل المرتزقة باتجاه أوكرانيا للقتال إلى جانب القوات الروسية والانفصاليين.
وإضافة إلى الوحدات العسكرية IL-76 و IL-62 التابعة لوزارة الدفاع الروسية، والتي سلمت معدات لتجهيز القاعدة والأفراد والجنود، قامت شركة أجنحة الشام للطيران السورية بنقل مرتزقة إلى قاعدة حميميم.
إذ إنه منذ بداية عام 2017 ، نفذت هذه الشركة أكثر من 50 رحلة جوية من مطار روستوف “بلاتوف” (يقع المطار المدني على نفس منطقة قاعدة VKS Rossii) إلى اللاذقية ودمشق.
ونقلت رويترز، عن شهود، قيام أجنحة الشام برحلات لنقل مقاتلين مرتزقة باستخدام طائرات إيرباص A320 بسعة تصل إلى 180 راكبًا.
وجرى تقدير عدد المقاتلين المرتزقة الذين نقلتهم الشركة إلى كل من دمشق واللاذقية بنحو 9 آلاف مرتزق.
واستغل الروس وجود المطار المدني (اللاذقية) الملاصق لمطار قاعدة حميميم الجوية العسكري في عمليات نقل الجنود والسلاح.
وبحسب إفادات عدد من أعضاء “مجموعة فاجنر”، تم استثمار ميناء طرطوس لتسليم المرتزقة القادمين على متن سفن إنزال كبيرة تابعة للبحرية الروسية.
وعلى سبيل المثال، جرى استخدام حاملة البضائع العائمة “كازان – 60″، التي كانت تسير بين روسيا وسوريا، وتحولت ملكيتها للجيش الروسي بعد أن كانت مملوكة للشركة الروسية “АСП” ، المرتبطة بزعيم فاجنر، يفغيني بريغوجين.
ومنذ أغسطس 2018، حلقت طائرتان من طراز Tu-154M تابعة للقوات الجوية الروسية، السرب رقم 223، مستأجرة من قبل الشركات الخاصة، بشكل منتظم بين قاعدة حميميم، والعاصمة السودانية، الخرطوم، ومدينة بنغازي الليبية، وعاصمة أفريقيا الوسطى، بانجي، حسب معطيات أجهزة الأمن الأوكرانية، في وقت أظهرت تقارير نشاط المرتزقة الروس في هذه البلدان، وعبر شركات بينها كانت “M Invest” المرتبطة برجل الأعمال يفغيني بريغوجين وفق ما ذكر “Radio Liberty” (إذاعة أوروبا الحرة).
حميميم مركز لنقل المرتزقة إلى أوكرانيا
تشير المعلومات الموثقة إلى أن قاعدة حميميم استخدمت كمحطة رئيسية لنقل مرتزقة فاغنر إلى جبهات أوكرانيا للقتال إلى جانب القوات الروسية والانفصاليين على أكثر من جبهة.
ورصدت منظمة “سوريون لأجل الحقيقة والعدالة“، مؤخرًا، ثلاث رحلات جوية، اثنتان منهما عبر حميميم، جرى خلالها نقل حوالي 300 مقاتل من سوريا إلى أوكرانيا بين حزيران وأيلول 2022.
وذكر شهود من عائلات الجنود الذين تم نقلهم، أن شركة أمنية تدعى “الصياد” أبلغتهم بمقتل الجنود هناك من دون تسليم جثامين أو أوراق رسمية تثبت الوفاة.
وتأتي الرحلات الثلاث الأخيرة التي جرى الكشف عنها، ضمن سلسلة من عمليات نقل المرتزقة السوريين من ليبيا وسوريا للقتال في أوكرانيا.
جرى رصد رحلات الطيران على موقع “فلايت رادار” (FlightRadar24) بعد مقاطعة الشهادات، وأظهرت البيانات أن الرحلتين الأولى (على طائرة من طراز Ilyushin Il-76، حملت رقم تسجيل RA-78840)، والثانية (على طائرة من طراز Antonov An-124، رقم تسجيل RA-82038)، تمتا يومي 5 حزيران و7 تموز 2022، وكلاهما من سوريا إلى روسيا عبر حميميم.
طائرة الرحلة الأولى (RA-78840) جرى رصد تحركها من وإلى سوريا تسع مرات في عام 2022.
أما الرحلة الثالثة يوم 9 أيلول 2022، أقلعت من حلب (شمال سوريا) إلى طهران، قبل نقل الجنود على متن رحلة ثانية من طهران إلى روسيا بعد يومين.
الروس يسرقون الكهرباء
يتندر أهالي المنطقة على قاعدة حميميم بإطلاق تسميات ساخرة، منها المدينة المنورة والبيت اﻷبيض، إشارةً إلى أنّ الكهرباء لا تنقطع فيها منذ إنشائها رغم أزمة الوقود والتقنين التي تشهدها البلاد.
وحسب المادة 13، البند الثالث من البروتوكول الملحق باتفاق 2015، والموقع بتاريخ 18 كانون الثاني 2017، “يتخذ الطرف السوري التدابير المناسبة للتزويد المستمر لمجموعة الطيران الروسية، بما في ذلك المباني السكنية المخصصة لإقامة موظفي مجموعة الطيران الروسية وعائلات أفراد مجموعة الطيران الروسية، فضلاً عن المرافق الاجتماعية والمرافق الثقافية والرعاية الاجتماعية والقنوات وخطوط الاتصال السلكية وتوفير الكهرباء والمياه وأنواع أخرى من الخدمات العامة، وفقا للمعايير المعمول بها في الجمهورية العربية السورية، مجاناً حتى 31 كانون الأول 2017.”.
وينص البند المذكور أنه “اعتبارًا من 1 من كانون الثاني 2018، سيتم تقديم هذه الخدمات من قبل الطرف السوري على أساس تعاقدي، وهذا يعني أن تكون هناك تعاقدات للتزويد بالماء والكهرباء بين دمشق وموسكو بهذا الشأن.
وخلال السنوات التي تلت المهلة المذكورة استمرت عملية التزويد بالكهرباء، إلا أنه لم تجر أي عملية تعاقد، أو تقاضي لثمن الكهرباء، وهو ما تأكد منه التحقيق بعد مراجعة مديرية الكهرباء في اللاذقية، حيث لا توجد أي وثائق أو عدّادات خاصة بالقاعدة.
وأكد أحد الموظفين المتخصصين في المديرية أن الفترة بين 1 كانون الثاني 2018 وحتى آب 2022 (التاريخ الذي تمت فيه مراجعة المديرية)، لم تشهد تسديد أي مبالغ مالية مقابل استجرار الكهرباء لقاعدة حميميم الجوية العسكرية.
ولدى سؤالنا أحد موظفي الجباية وآخر في دائرة العقود في مديرية كهرباء اللاذقية، نفى كلاهما وجود أية فواتير موجهة للقاعدة، في حين أشار أحد الموظفين إلى أنّ هكذا فواتير، في حال وجودها ترسل إلى وزارة الكهرباء، التي تقوم بدورها بتوجيهها إلى جهات أخرى.
استدعى الأمر توجيه اسئلة لوزارة الكهرباء على بريدها الرسمي “info@moe.gov.sy”، للتأكد من وجود عقود، أو عملية جباية للكهرباء التي تستجرها قاعدة حميميم، إلا أن الوزارة لم تستجب بتقديم أية توضيحات حتى تاريخ نشر هذا التحقيق.
وحول كمية الاستجرار التي تستهلكها القاعدة، كما يقول المهندس خالد، (اسم مستعار لأسباب أمنية) فهي توازي ميجاوات/ ساعي واحد، “بالنظر إلى أنّ الأدوات والتجهيزات الموجودة في القاعدة يستخدم معظمها التيار الكهربائي العادي 220 أمبير (المتوفر في الشبكة العامة)، وتعمل على مدار 24 ساعة، ويزيد نظام التبريد والتدفئة في بعض منها من الاستهلاك، كما أنّ منظومات المراقبة الجوية تستهلك هي اﻷخرى كمية أكبر من الطاقة الكهربائية.
وقدر المهندس قيمة الكهرباء التي يجري استهلاكها سنويًا في القاعدة بما يزيد عن 1.1 مليار ليرة سورية سنويًا، إذا تم اعتبار السعر وفق الشريحة التجارية أو العدادات المؤقتة.
ويبلغ متوسط سعر الكيلوواط/ساعة لهذه الشريحة وفق تسعيرة وزارة الكهرباء اعتبارًا من بداية تشرين الثاني 2021 نحو 127 ليرة.
ويشير المهندس خالد إلى أن عملية الاستجرار مستمرة على هذا الحال طوال سبع سنوات، وهو ما يعني أن المبالغ التي خسرها السوريون من هذه العملية تقدر بنحو ثماني مليارات ليرة خلال تلك الفترة.
وكانت القاعدة تأخذ خطها الكهربائي الساخن من خطوط المطار المدني الكهربائية، وفي العام 2018 أُضيفت محوّلة توتر متوسط (20 ك،ف،أ) للقاعدة.
ووفقاً لأحد المهندسين الكهربائيين من بلدة حميميم، فضل عدم الكشف عن اسمه لأسباب أمنية، فإنّ “استجرار القاعدة من التيار الكهربائي ترك تأثيره على المنطقة لجهة حدوث العديد من الانفجارات في خزانات الكهرباء غير البعيدة نسبياً عن القاعدة، نظراً للحمولة العالية في اﻷجهزة التي تستخدمها القاعدة، أو ربما بسبب ضعف الشبكة الكهربائية المحلية نفسها التي لا تحتمل مثل هذه الحمولات القريبة منها”.
وفق شهادات عدد من السكان فإن القرى المجاورة لم تكن تشهد انقطاعات في التيار الكهربائي مستفيدة من ظروف إبقاء الإمداد للقاعدة، إلا أن الأمر تغير بعد مطلع العام 2018.
وذكر ياسين محمد، (45 عاماً)، وهو أحد سكان القرى المجاورة، أن سكان المنطقة لاحظوا إجراء “تعديلات على خطوط الشبكة الكهربائية، فبات للقاعدة والمطار المدني خطهما الخاص”.
المياه دون فواتير أيضًا
وأما بالنسبة للمياه، فإنّ العطش الذي يعيشه سكان الساحل السوري، لا ينطبق على القاعدة الروسية، حيث تتزوّد بمياه نبع السن عبر أنبوب خاص بحجم كاف لجميع حاجاتها.
ووفق أحد الموظفين في نبع السن، فإنّ عملية الضخ على هذا الخط لا تتوقف على مدار الساعة.
وبالمثل، فإنّ استجرار المياه المستهلكة في القاعدة لا يخضع لأي ضوابط، ولا تظهر له آثار عقود وعدادات توضح الكميات المستجرة وقيمتها، وهو ما يخالف البروتوكول الملحق لاتفاق 2015 والموقع عام 2017.
ما سبق يعني أن القاعدة تتزود مياهها من خزينة الدولة وجيوب السوريين أيضًا.
ولا يستبعد الموظف أن يكون الروس قاموا بحفر آبار داخل القاعدة، إلا أن ذلك لا ينفي أنها لا تزال تتزود بالمياه القادمة من خطوط جرّ نبع السنّ.
حاول فريق التحقيق مواجهة الجهة المسؤولة عن شبكة المياه في المنطقة، وخاطب المؤسسة العامة لمياه الشرب والصرف الصحي على بريدها المنشور في موقعها الرسمي، إلا أن أيًا من الاستفسارات لم يجر الردّ عليها حتى لحظة نشر هذا التحقيق.
ماذا يفعل ضجيج الطائرات بالسكان؟
يتعرض سكان محيط قاعدة حميميم لضرر صحّي واقتصادي سببه أصوات إقلاع وهبوط الطيران العسكري، ما يتسبب بأمراض الأذن والضغط والقلب، أضف إلى ذلك تشقق المنازل.
آلاف القاطنين في بلدات وقرى منها حميميم، بطرة، بسيسين، الشراشير، المقص، وحتى مدينة جبلة، تحولت حياتهم إلى جحيم.
وصل عدد الطلعات الجوية الروسية في سوريا في قاعدة حميميم إلى أكثر من مئة ألف طلعة منذ 2015 وحتى آب العام 2021، حسب تصريحات نقلتها وكالة سبوتنيك عن قائد القوات الجوية الروسية الموفدة إلى سوريا، يفغيني نيكيفوروف.
ويبلغ المعدّل الوسطي موزّعًا على ست سنوات (72 شهراً/2190 يومًا)، حوالي 457 طلعة جويّة تتطلب أكثر من 900 حركة إقلاع وهبوط يومياً.
الطبيب معن، المتخصص بأمراض الأذن، وهو من أبناء المنطقة المحيطة بالقاعدة، (فضل عدم الكشف عن اسمه الكامل لأسباب أمنية)، أشار إلى “أن ضجيج المطار ارتبط بأمراض ضعف السمع، وارتفاع ضغط الدم، وأمراض القلب والأوعية الدموية، وقد تم إثبات العلاقة بين ضوضاء الطائرات وهذه الأمراض في العديد من دراسات الحالة”.
وتابع الطبيب المتخصص، أن المنطقة لم تشهد إجراء أبحاث دقيقة عن تأثير الطلعات الجوية على السكان، إلا أن “الضجيج يتسبب في كثير من الأضرار التي لا تحدث مباشرة، مثل فقدان مؤقت للسمع، وتتراكم هذه المسألة مع الزمن حتى تنتهي بالغالب بحالة الطرش وعدم السمع نهائياً”.
صنّفت منظمة الصحة العالمية التلوث الضوضائي نوعًا من التلوث البيئي، لما له من تأثيرات سلبية على الإنسان في حالته الطبيعية، أي في بلدٍ لا تشوبه صراعات عسكرية حادة.
تبلغ مستويات قوة اﻷصوات الطبيعية للإنسان بين 30 ديسيبل إلى 80 ديسيبل (وحدة قياس شدة الصوت)، وتتراوح تردداتها بين 20 هرتز وحتى عشرين ألف هرتز.
ويتجاوز الضجيج أو التلوث الضوضائي الناتج عن محركات الطائرات أثناء الإقلاع، 120 ديسيبل، ما يشكل قوة ضغط عالية تؤدي لتخريب السمع، وفي الطائرات المقاتلة الحربية تزيد عن ذلك تبعاً لقوة الطائرة وحجمها وفي التصاميم الروسية بشكل عام نادراً ما تلحظ مسائل مثل الصوت في عملية تصنيع الطائرات.
وفقاً لتقرير الصحة لمنظمة الصحة العالمية، فإن 1.8٪ من النوبات القلبية في أوروبا ناجمة عن ضوضاء المرور التي تزيد عن 60 ديسيبل.
الأخطار السابقة دفعت السلطات في مختلف الدول لبناء المطارات في مناطق بعيدة عن السكان بمسافة 30 كيلومترًا على الأقل.
تشققات المنازل وذعر الأطفال
يشير بعض لشهود في القرى المجاورة لقاعدة حميميم إلى حصول تشققات داخل منازلهم، ما تسبب في انخفاض أسعارها، كما أن بعض السكان غيروا مناطق سكنهم، خصوصًا مع شكاوى إصابة الأطفال بالذعر، جراء الصوت المرتفع.
تقول مها.خ، وهي أم لثلاثة أطفال تسكن قرية مجاورة لقاعدة حميميم، إن أطفالها فقدوا التركيز في دراستهم، وأنهم يستيقظون مذعورين، بسبب الطلعات الليلية.
تتابع مها، ليست هناك طريقة للتخلص من هذا الحال سوى “النزوح”، طالما أن القاعدة تشكل “سلطة أعلى من الدولة”، ولا سبيل للشكوى أو الاستجابة.
وأكد الطبيب معن، أن ضجيج الطائرات يتسبب بـ”اضطراب النوم وانخفاض الأداء المدرسي، وتحفيز العدوانية، وغير ذلك من السلوكيات غير الاجتماعية”.
ويشتكي بعض السكان الذين التقاهم التحقيق من تبعات وجود القاعدة بالقرب منهم، إذ شكلت القاعدة هدفًا لقوات المعارضة في السابق، ما تسبب بتعرض المنطقة المحيطة التي يسكنها المدنيون للمقذوفات النارية أو حطام الصواريخ.
كما أن هناك مقذوفات متفجرة تسقط من الطائرات الروسية أثناء إقلاعها، وهو ما تؤكد حوادث سابقة تناولها الإعلام منها سقوط صاروخ لم ينفجر إلى جانب أحد المنازل في قرية الشراشير، حيث دفع سكان المنزل ثمن الحادثة، عندما أقدمت الجهات المختصة على تفجير الصاروخ والمنزل معًا.
وتعرضت القاعدة لهجومين جماعيين على الأقل بطائرات من دون طيار، خلال الأسبوع الأول من عام 2018، مما أسفر عن مقتل العديد من الأفراد وإلحاق الضرر أو تدمير عدد من الطائرات.
عسكرة المحيط وتعطيل الحياة
خارج القاعدة، يتولى الجانب السوري المخابراتي أمور المحيط، ورصد التحقيق حجم العسكرة في المنطقة، إذ يشير عدد من الشهود إلى أن الحواجز والقائمين عليها يقيّدون حركة السكان، ويمنعونهم، في كثير من اﻷحيان، من الوصول إلى حقولهم الملاصقة لحرم المطار والقاعدة، سواء بقصد أمني غير مبرر، أو بقصد الابتزاز.
يقول أحمد علي (اسم مستعار، 36 عاماً)، وهو موظف حكومي، إنّ عناصر الحواجز القريبة من المطار والقاعدة (وهما متلاصقان)، يمارسون عملية ابتزاز عبر فرض إتاوات، “سواء من المواسم الزراعية”، أو عبر إجبارهم على تأمين بعض المستلزمات الخاصة بهم مثل “السجائر والمتة”، مضيفًا أن طلبات هؤلاء العناصر “لا تنتهي”.
لا يقتصر هذا الجانب على طلبات أفراد الحواجز، بل في تقييد مواز لحركة السيارات الزراعية، ومجمل نشاطات العمل المرافقة، حيث تم تحديد مسارات الوصول إلى تلك الحقول بعد أن كانت في غالبيتها مفتوحة.
يذكر أديب.م، وهو أحد المزارعين من أبناء المنطقة، أن السيارات الزراعية يجري تفتيشها بكواشف المتفجرات والألغام وغيرها، وتعطيل مواسم القطاف والجني لتحقيق مزيد من الابتزاز.
ويتابع أديب القول، إن العديد من التجار باتوا يرفضون ضمان المواسم، جراء ممارسات حواجز المخابرات ومتطلباتها، ما تسبب بخسائر لأبناء المنطقة من الفلاحين.
أما الروس في الداخل، فلم يخرجوا من عزلتهم سوى للقتال، واقتصر التعامل مع الجوار بتجارة الوقود، لمصلحة ضباط روس، ثم تجارة العملة وتصريف الروبل بالدولار، وغالبًا ما يتسوق الجنود الروس التبغ والكحوليات، حسب شهود من المنطقة قابلهم التحقيق.
ويقول صاحب متجر “Aurora” (الشرارة بالروسية)، وهو متخصص ببيع هدايا تذكارية تقليدية، “إنّ الروس بداية حضورهم هنا كانوا يأتون جماعات من ثلاثة أفراد ومسلحين”، وبعد مرور سنوات، لم يلحظ الجوار اختلاطهم بأهل المنطقة.
تشير لقطات بثها اﻹعلام (الروسي وغيره) من داخل القاعدة إلى أنّها تمتلك لوحدها مطابخها وسوقها وطقوسها الخاصة، وأن الاتصال بالمحيط يقتصر على تسوق مواد لوجستية وغذائية عبر متعهدين سوريين يخضعون للتفتيش.
تكاليف القاعدة وقوامها
تضم القاعدة أكثر من 50 طائرة بمختلف الأنواع، إضافة إلى عدد غير محدد من الجنود.
وقدّر تحقيق أجراه موقع newizv الروسي عام 2018، عدد الجنود الروس في عموم سوريا بحدود ستين ألفاً، وقرابة خمسمائة جنرال، على مدار سنوات التدخل منذ 2016.
ويقدر التحقيق أن ثلث هؤلاء الضباط والجنود هم من الشرطة العسكرية التي تتوزع في مناطق ساخنة في سوريا، ومؤسسات حكومية أو عسكرية في المدن، وحوالي أربعين ألفاً في قاعدتي حميميم وطرطوس البحرية، وعليه يمكن القول إنّ عدد الروس في القاعدة يقترب من عشرين ألفاً، وفق التحقيق.
ومع الحرب التي شنتها روسيا على أوكرانيا، وسحب أعداد كبيرة من الجنود والضباط، لا تتوفر إحصائية عن حجم القوات المتبقية في سوريا.
ووفقًا لتقديرات RBC، المتخصصة بتكنولوجيا المعلومات والخدمات والإعلام، في عام 2015، كلفت العملية العسكرية في سوريا وزارة الدفاع الروسية ما لا يقل عن 2.5 مليون دولار يوميًا.
شمل المبلغ مدفوعات للأفراد العسكريين والموظفين المدنيين، وتكاليف صيانة البنية التحتية لقاعدة حميميم ونفقات أخرى، فضلاً عن الإجراءات المباشرة للطيران – المعارك الجوية.
وبلغت تكاليف النفقات على الموظفين من جنود القاعدة والقاعدة البحرية نحو 160 ألف دولارًا في اليوم.
بناءً على هذه البيانات، ومع مراعاة مضاعفة الأعمال وعدد الجنود في عام 2017، قدّر فريق “Novaya Gazeta Europe data-team” تكاليف صيانة حميميم وأعمال الطيران من بداية التشغيل حتى أغسطس 2021، بمبلغ يصل إلى 364.5 مليار روبل، أي ما يعادل 5.16 مليارات دولار أمريكي ( الدولار يساوي 70.50 روبل).
ولا توجد معلومات مفتوحة المصدر حول تكاليف إعادة بناء البنية التحتية للقاعدة، ولكن وفقًا للنشرة الحكومية RIA، التي تحدثت عن تحديث مطار Belbek في شبه جزيرة القرم، أعيد بناء حميميم وفقًا لمشروع مماثل بتكاليف مماثلة.
بناءً على ذلك، يفترض أن تكون إعادة بناء قاعدة حميميم الجوية قد كلفت الجانب الروسي ما لا يقل عن مليار روبل (حوالي 14.2 مليون دولار).
ساهم في التحقيق: Novaya Gazeta Europe data-team
علي عيد _ حازم مصطفى (اسم مستعار) _ سيريا انديكيتور