انقسم السوريون طوال عشر سنوات مضت إلى ثلاث مجموعات رئيسية، القسم الأكبر والأهم منهم انخرط في صف الثورة على نظام الأسد ومعارضته، وشكل هؤلاء من السوريين في أغلب المحافظات على تنوعهم واختلافهم، والقسم الثاني انحاز إلى صف النظام مختاراً مصالحه القريبة، ورغم أنه أخذ مسحة طائفية رغب النظام في التأكيد عليها، فإن نخبة المؤيدين جاءت من مكونات مختلفة، اندمجت معاً، وشكلت القوة الضاربة للنظام في مواجهة ثورة الأكثرية السورية، والقسم الثالث من السوريين الموصوف بـ«الرماديين»، تشكل هيكله الرئيسي من نخب المكونات الأقلوية، وأعلن أنه في موقف الوسط بين الثورة والنظام، إلا أنه صب جهده وطاقاته عملياً في مصلحة النظام ودعم سياساته ومواقفه.
وعاش الانقسام السوري الأول، تطورات كثيرة في السنوات الماضية، فاهتزت خريطته، وانتقلت كتل واسعة منه في الجغرافيا والسياسة، وتغيرت حدة الانقسام على نحو ما بدت عليه في سنوات الثورة الأولى، فاشتدت في بعض المواقع، وخفت في مواقع أخرى، وإن كان لا بد من إشارات للتبدل في خريطة الانقسام السورية، فيمكن الإشارة إلى نوعين من التغييرات، أولها تغييرات حدثت نتيجة التطورات السياسية والميدانية للصراع السوري، وأدت إلى موجات قتل ودمار ونزوح وتهجير، وكان أغلبها من مناطق خارجة عن سيطرة النظام، فيما شهدت المناطق الأخرى نزوحاً أقل، كان يمكن أن يكون أكبر، لو فتحت الأبواب أمام سكانه للذهاب إلى أي مكان في العالم، ووسط ما جرى من تطورات، تغيرت مواقف، كما تبدلت أنماط عيش وعلاقات، وغالباً بسبب تغير أولويات النازحين والمهاجرين واللاجئين، ويمكن القول إن السوريين الباقين في البلاد، لم يكونوا بعيدين عن تحولات أقرانهم من المهاجرين واللاجئين، وإنما تأثروا بها كما حدث لجهة الدعم المادي للباقين في سوريا أو في مساعدة أعداد منهم للمغادرة إلى الخارج.وثاني التبدلات، جاءت نتيجة التدخلات الخارجية في الواقع السوري، والتي كانت متنوعة ومتعددة، وجرت في مراحل مختلفة، لكن الأهم فيها، تغييرات مست أعماق الواقع السوري وبناه الأساسية، وهي تغييرات تزداد أخطارها، إذا استمرت لفترة زمنية لاحقة، ولعل الأبرز فيها تدخلات حلفاء النظام الإيرانيين، وميليشياتهم المنتشرة في أنحاء مختلفة من البلاد، وقد أخذت في نشر التشييع الإيراني، وإقامة بنى سياسية وعسكرية واقتصادية وثقافية له، حيثما استطاعت، مستغلة الظروف الأمنية والاقتصادية، التي ساهمت في خلقها لدفع فئات سورية ضعيفة، وأخرى انتهازية لتشييع وللانخراط في تنظيمات وميليشيات شيعية.
ويقود حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (pyd) في سوريا المرتبط بحزب العمال في تركيا (PKK) نشاطاً مقارباً لنشاط الإيرانيين وميليشياتهم في شمال شرقي سوريا، وإن كان مختلفاً في محتوى التوجهات الآيديولوجية والسياسية.
إذ يسعى الحزب وعبر ميليشيات مسلحة نواتها من كادراته وأعضائه للسيطرة حيث استطاع، ولا سيما في مناطق سيطرته عبر تحالف مع فئات محلية مستغلاً ضعفها وسوء الظروف الأمنية والاقتصادية، وطموحات بعض النافذين فيها في إقامة إطار سياسي عسكري باسم مجلس سوريا الديمقراطية (مسد) وميليشيات مسلحة باسم قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، ولا يحتاج الوضع إلى كثير من التدقيق للقول، إن الهدف الأخير لما يجري هناك تكريس سيطرة ذات نزعة يسارية آيديولوجية بهوية عنصرية تحت شعار الإدارة الذاتية مستمدة من خط حزب العمال في تركيا (PKK).
وثالث أوجه التبدلات الناتجة عن التدخلات الخارجية، تبدو ظاهرة في شمال غربي سوريا، حيث منطقة النفوذ التركي موزعة بين السيطرة المباشرة للقوات التركية وسيطرة القوات الحليفة لها أو القريبة منها ومنها هيئة تحرير الشام، ويتشارك هؤلاء رغم تبايناتهم الآيديولوجية والسياسية وغيرها في تكريس روابط وعلاقات المنطقة وسكانها مع الجار التركي، حيث يتزايد حضوره الناعم لغة وتعليماً وعملة وبضائعَ وحملة جنسية إلى جانب حضوره السياسي والعسكري والأمني، بما يمثله ذلك من تعبير عن القوة العارية، التي تدعم جدار في مواجهة (pyd).
وإذا كانت التبدلات السابقة تحيط بعموم حياة السوريين في الشتات وفي بلدهم، فإن من الطبيعي، أن تشمل مؤيدي الأسد، وخصوصاً ممن يعيشون مع غيرهم من اتجاهات أخرى في مناطق سيطرته، حيث يتواصل تطبيق سياسات سيطرة سياسية وأمنية متشددة، وسياسة نهب وإفقار وفساد من كل لون ومستوى، هدفها النهائي الإخضاع من جهة ومراكمة المال والنفوذ للقلة الحاكمة وبطانتها.
وإذا سمحت السنوات العشر السابقة لنظام الأسد بالإبقاء على هامش تميز في المكاسب والعيش لقطاع من المؤيدين جعلهم في بحبوحة، فإن تطورات الأعوام الأخيرة بما فيها من تنافس وصراع في بنية النظام ومنه تنافس بشار الأسد مع رامي مخلوف كمثال، ومحاولات رأس النظام تصفية أو تهميش بعض من راكموا ثروات كبيرة، تمهيداً للاستيلاء على ثرواتهم، فإن نهب المحتلين الإيرانيين للقدرات السورية المحدودة، وكذلك الروس والأزمة الاقتصادية الطاحنة وانهيار قيمة الليرة، وضياع المدخرات السورية في البنوك اللبنانية، ترك أثره على قطاع واسع من المؤيدين، مما سمح بظهور تفسخات صارت معلنة وملحوظة، ورغم أن طريقة النظام في معالجتها لن تكون خارج إطار الإجراءات الأمنية العسكرية، لأنه لا يجرؤ على تجربة طرق أخرى، فإنه لن يذهب سريعاً في هذا الطريق، لأنه سيؤدي إلى انفجارات في قاعدة النظام الاجتماعية – الطائفية.
خلاصة الأمر، أن نظام الأسد وسط استمرار سياساته، فإن أحوال السوريين، تتجه إلى التفاقم، وخاصة في أوساط مؤيدي الأسد، وسيكون لها أثر على النظام، ولا سيما في مستويين: أولها على مستوى الصراعات داخل النظام، مما سيؤدي إلى ظهور أسماء واختفاء أخرى في نخبة النظام في الفترة القريبة المقبلة، والثاني على مستوى تصدعات القاعدة الاجتماعية للنظام، التي سوف تتزايد، وقد تجاوزت في الفترة الماضية قشرة «اللحمة الوطنية»، وأصابت الجوزة الطائفية للنظام، وتجاوز تناولها الكلام عن الحكومة والنظام، وبدأت في تناول رأس النظام والمحيطين به، ولعل هذا هو الأهم في التبدلات التي تصيب مواقف السوريين اليوم.
فايز سارة _ الشرق الأوسط