سيريا برس _ أنباء سوريا
غالبًا، عندما أنتهي من كتابة هذا النص سأشعر بالوحدة. قلبي يخبرني بذلك. أتجاهله قليلًا لأن مهمّته الوحيدة مؤخرًا هي التلاعب بي بين جرعات الضيق في الصدر وتسارع دقّاته. تهاجمني نوبات الهلع تلك من دون تنبيهٍ أو حتى إنذار، تليها غصّاتٌ متوتّرةٌ في المعدة تستمرّ لساعات. بعدها، يستريح قلبي ويترك لباقي جسدي التأرجح بين موجات الحزن والاكتئاب واللاجدوى.
طلبتُ من أختي اليوم أن تُرسل لي بعض الصور لبيتنا في دمشق؛ الجزء القديم منه فقط، أي غرفتي والمطبخ. لا أريد لذاكرتي أن تتداخل مع شكل البيت الحديث بعد إضافة أقسامٍ جديدة إليه، فلا ذاكرة لي في الجديد. منذ أسبوعٍ أشعر بالوحدة؛ شعورٌ بدأت أعتاده بعد اغتراب عشر سنواتٍ عن عائلتي، وعلاقةٍ امتدّت على تسع سنواتٍ عشت في ختامها وحدةً قاتلة. لقّنتني تلك العلاقة درسًا جيدًا في التفكير بمعنى أن أكون في علاقةٍ وفي وحدةٍ في آنٍ معًا، وبمعنى الاختلاء بالذات والعيش بمفردي من دون أن ترافقني الوحدة بالضرورة.
بدأت أخاف من المستقبل على الرغم من خطّتي المبدئية بألّا تكون لديّ خطة. مرّت أيامٌ عدّةٌ وأنا مرمية على الكنبة في بيتي الصغير، هرعتُ بعدها إلى هاتفي أتفقّد قائمة الصديقات للحالات الحرجة. بدأت أجري الاتصالات كي ألهي نفسي قليلًا وأفرغ بعضًا من هلعي.
تجيب صديقتي التي تعيش في منفاها أيضًا على رسائلي بتهكّم:
– شو القصة اليوم؟
– نفس القصة، عندي ثقل على قلبي. جرّبت تمرين التنفس اللي نصحتيني فيه آخر مرة، بس ما مشي الحال.
– طيب عملتي شوية تمارين؟
– لا لسّه. حاسة حالي مشلولة وملزّقة بالكنبة.
تصرّ عليّ:
– قومي، لا تخلّيها تبلعك. بتّصل فيكي بس ترجعي من النادي، ماشي؟
أنتزع نفسي عن الكنبة وأسرع إلى النادي الرياضي. أنطلق بالركض من دون إحماءٍ حتى. أتوقّف فقط حين تنقطع أنفاسي وأملّ من التحديق في وجهي. أجفّف عرقي وأعود إلى الكنبة اللعينة.
أرتمي عليها مجددًا. أحدّق في السقف الأبيض العالي. يطفو الفراغ فوقي مساحةً ممكنةً لكل أفكاري المتطايرة. أنقّل نظري بين النافذة التي تطل على سكّة القطار وباب غرفة النوم المغلق. أعود للتحديق في المطبخ الصغير الذي يحتل جزءًا من غرفة المعيشة. أكره أن يكون المطبخ ضمن الغرفة. أعود للتحديق بالجهة الأخرى فأجد الشجرة التي تغطّي الناحية الأخرى من السكّة تتمايل. أفضّل هذه الجهة من الغرفة. تهبط فكرةٌ من الأفكار المتطايرة. أبلغ حدّ البكاء لإداركي أنّي كلّما لممتُ نفسي وطوّرتُ تقنياتٍ لأحمي ذاتي من أزمات المشاعر السلبية الثقيلة، يعود الشعور بالعزلة والمنفى ليتفاقم، فأجد نفسي كخصلةٍ من شعرٍ طويلٍ تُركت لتنسدل وحدها من غير أن تلاحظها أيٌّ من الخصلات الأخرى المجتمعة في مشبكٍ واحد.
أجلس وشعوري على مضضٍ وأفكّك مع نفسي ما يدفعني إلى هذه الدراما في كلّ مرةٍ عليّ أن أواجه فيها هويّاتي التي تراكمت في الأعوام العشرة الأخيرة… مهاجرةٌ مسلمةٌ ملونة البشرة في عينَيّ الحكومة، ولاجئة ملونة البشرة في نظر معظم سكان البلد من البيض، بحكم المنفية من بلدي وفي عينَيّ حكومتها، “هاربة” كما تصف عائلتي قراري بالانفصال عنهم والسفر إلى أوروبا. الوحدة شعورٌ يتصاعد ويتراجع بناءً على مدى روعة أو فشل علاقاتي الرومانسية. أدقّق، ثم أعيد التدقيق تمامًا في هذا التفصيل، فأجد علّتي: أنا لِمَن أنتمي؟ أين جذوري؟
أنا لا جذر لي، لكنّي أقنع نفسي بأنني متعددة الجذور. أُسكت عقلي الذي يحاول إدارة قلقي بشكلٍ مصطنعٍ هذه المرة. أحدّق في النافذة الكبيرة، ألاحظ نباتاتي التي بدأتُ أقتنيها منذ عامٍ وأجعلها همّي اليومي في التحقّق والمراقبة ووضع خططٍ لتغيير ترابها وحاوياتها. كان عليّ أن أعرف أني أعاني أزمة انتماء! كيف لم أتنبّه إلى أنني كلما كدتُ أخسر إحداها أو أشعر بها تجفّ، كنت أسرع لأرويها كأني بذلك أروي نفسي وأطمئن عليها بإعطائها المزيد، بالرغم من أن معظمها من الصبّاريات.
الوحدة شعورٌ يتصاعد ويتراجع بناءً على مدى روعة أو فشل علاقاتي الرومانسية. أدقّق، ثم أعيد التدقيق تمامًا في هذا التفصيل، فأجد علّتي: أنا لِمَن أنتمي؟ أين جذوري؟
في وقتٍ سابق، حدث الأمر ذاته مع كلبي ليل الذي اتخذَت علاقتي به شكل أمومةٍ قسرية. كثيرًا ما أجبتُ على سؤال “هل لديك أطفال؟” بـ”نعم، لديّ ولدٌ اسمه ليل”، من دون أيّ تفسيرٍ إضافي عمّن يكون ليل. وكان البعض يصدّق الجواب لجدّيتي المفرطة، قبل أن أتوقف عن ذلك لمعرفتي بعدم منطقية الأمر. لكني وقتها، بدأتُ أدرك معنى العلاقات ما بعد البشرية أو ما بعد الإنسانية (posthumanist)1 مع الحيوانات تحديدًا، من دون تسخيفها أو تقديسها، بل فقط عبر محاولة فهمها والإحساس بأهميتها. حين أتحدث وصديقاتي عن حيواناتنا الأليفة، نحكي عن أهميتها في حياتنا اليومية، عن الحب والرعاية التي نقدمها لها ونتلقاها منها، وعن خفة دمها ومزاجيتها. كل ذلك يجعل لوجودها أهميةً خاصةً لا تنوب عن حاجاتٍ أخرى – كالأمومة إن وُجِدَت – لكنها تؤسّس لعلاقةٍ دافئةٍ بين الكائن البشري وغير البشري.
أسخر من خططي المبنية على ردّات فعلٍ سابقةٍ ومحاولاتي للالتفاف من نوبات الهلع بغية إسكاتها. أحاول هذه المرة أخذ قلقي إلى مكانٍ أكثر جدّية، لعلّي في المستقبل أجد حلولًا تضمن لي ألا أختبر تلك النوبات مجددًا. أراقب توتري وهو يتحول إلى آلةٍ حاسبةٍ غاضبةٍ داخل رأسي. أبدأ باحتساب فُرصي لخلق جذرٍ مستدام: هل سيكون الإنجاب حلًا؟ أتراجع فورًا… لا ليس حلاً. أنا لستُ إنجابية، ولم أرغب يومًا بخوض تجربة الحمل والولادة والرضاعة. لا أريد لجسدي أن يختبر تلك الصدمة.
ليكُن التبني إذًا… لكنه صعب. أعرف أنه صعبٌ لا سيما أني لستُ معياريةً في علاقاتي ولا في اختياراتي المستقبلية، ولم أرغب يومًا في اتباع ما هو مقبولٌ اجتماعيًا من دون مساءلته. لم أجد قط في معايير وتوقعات المجتمع مني كامرأةٍ أمرًا منطقيًا أو مفهومًا. تضغطني فكرة حصر الخيارات وربطها بالسعادة والأمان وتقديمها كمجموعةٍ من الخطوات التي ستكافئني بالاستقرار الاجتماعي إن اتبعتُها. فالاحتفال بالغيرية الجنسية واختصار الحب والعلاقات بذلك النمط حصرًا يُغضبني، لأنه يسعى إلى تنظيم رغباتي قسرًا وقمعًا وتحديد شكل الحياة التي يجب عليّ أن أعيشها بدلًا من تلك التي يمكن لي أن أختارها. لكلّ ذلك، لم تقنعني يومًا فكرة تأسيس عائلةٍ “نوويةٍ” تقليديةٍ تضمّ أبًا وأمًا وأطفالًا كمعيارٍ للاستقرار والأمان. بالطبع، يعني ذلك سقوط أيّ فرصٍ للتبنّي، فما من مؤسسةٍ سترضى باستقلاليتي من دون شريكٍ ذكر. أتمتم “لماذا لا يمكن لي أن أكون أمًا عازبةً لطفلةٍ من دون أم؟”. أحزن.
تصلني رائحة حریقٍ مشتعلٍ في أذني. أكشر وأتخیل نفسي في حفرةٍ أصرخ: لماذا یصبح كل ما أرید نضالًا ضد الأبویة والرأسمالیة؟ متى سیكون ما أریده موجودًا وممكنًا من دون معارك أبدية؟
أجد نفسي قد فشلتُ سلفًا في خلق جذرٍ يمتدّ مني إلى الخارج، سواءً عبر شخصٍ آخر، أو عبر نباتاتي وأشجاري أو حتى عبر كلبي ليل. أحدّق خارج النافذة. أتخيّل حقول الذرة الواسعة. أمعن النظر فيها وأراها تتمايل، فأشعر برغبةٍ في الارتماء في أحدها صيفًا ما لأضيع فيها وأرافقها إلى الشتاء، كي أولد من جديدٍ حبّة ذرةٍ في حقلٍ واسعٍ لا متناه.
أريد أن أصدّق بوجود عالمٍ حر، عالم ما بعد البشرية ومعاييرها. أهرب إلى رمنَسة حالتي لأنجو قليلًا، وأعرف مسبقًا أني كلّما خرجتُ من باب بيتي إلى الشارع سأصافح الواقع، وسيركلني على أسفل ظهري لأنطلق إلى يومٍ آخر. وسأوهم نفسي عندها بأنّي أتجه جنوبًا، حيث الصور التي أرسلَتها لي أختي ذلك اليوم، حيث بيت عائلتي الذي خضتُ فيه أولى معاركي. أمشي وأمشي وأترك لمخيلتي تدبُّر أمر قلقي من وحدتي.
الكاتبة : رولا أسعد _ جيم