في 17 تشرين الاول/أكتوبر 2019 وما تلاه من أيام، شعر قسم كبير من اللبنانيين بعنفوان عظيم ونشوة عارمة، ما جعلهم يسترجعون في ذاكرتهم “لبنان العظيم” و”لبنان الكرامة والشعب العنيد”. المشاعر نفسها غزت أرواح قسم كبير من السوريين في آذار/ مارس 2011 والأشهر التي تلته، ما جعلهم أيضًا يتغنون بـ “سورية العظيمة” آنذاك.
هذه المشاعر جعلت السوريين واللبنانيين يطيرون في الهواء، أصبحت لهم أجنحة بعد أن كانت رؤوسهم مغروزة طوعًا أو كراهية في الرمال. كانت تلك اللحظات، في سورية ولبنان، الأرقى والأجمل في تاريخهما الحديث، وبدت ملامح الشعبين أنها في طريق التشكل، وخطت الوطنية السورية والوطنية اللبنانية أولى خطواتهما. لكن أين مشاعر السوريين واللبنانيين اليوم من مشاعر الأمس؟!
في انتفاضة 17 أكتوبر 2019، تظاهر قسم كبير من اللبنانيين في الشوارع مطالبين بحياة سياسية أفضل، وبالقضاء على الفساد وبناء دولة يحكمها القانون والمؤسسات، ما يعني أن هدفها الفعلي كان إسقاط النظام اللبناني، ولذلك كانت خارج الطوائف ومحاور الصراع، مثلما كانت الثورة السورية في أشهرها الأولى، وبدت قوى النظام المسيطرة في لبنان هشة وأقرب إلى الهزيمة، لكنها في المآل صمدت باعتمادها على القوة المسلحة لبعض قوى النظام، وعلى دعمها من فئات شعبية جرت السيطرة عليها أيديولوجيًا وطائفيًا ونفسيًا، خصوصًا عبر استنفار وتعزيز خوفها العميق من الآخر. كان محزنًا، لكنه مفهوم، أن يشاهد اللبنانيون المنتفضون، وهم في أغلبيتهم من الطبقة الوسطى، لبنانيين آخرين، فقراء ومعدمين، يعتدون عليهم. المشهد ذاته عاشه السوريون المنتفضون مرات عديدة خلال العقد الماضي.
كان حدث انفجار مرفأ بيروت في 4 آب/ أغسطس شبيهًا بحدث ضرب النظام السوري للغوطة الشرقية بالكيماوي في 23 آب/ أغسطس 2013 من حيث تأثيرهما في كثير من اللبنانيين والسوريين المنتفضين على التوالي، فقد اختلط الحزن على الضحايا بالتفاؤل بقرب انتهاء النظام؛ ليس من المعقول، بالنسبة إلى العالم، أن تبقى مثل هذه السلطات المستهترة والمهملة في مواقعها. بعد ذلك، بدأت مشاعر اليأس تتسرب إلى الأنفس، بحكم أن شيئًا من التفاؤل لم يتحقق، بل على العكس استطاعت السلطات في البلدين تثبيت نفسيهما أكثر وأكثر بعد الحدثين المريعين. كتب صلاح الدين البيطار، أحدَ مؤسِّسَي حزب البعث في عام 1947، مقالة بعنوان “سورية مريضة مريضة وتعيش محنة ومأساة”. اغتيل في إثرها، عند باب صحيفته “الإحياء العربي”، في صبيحة الإثنين 21 حزيران/ يونيو 1980.
سورية ولبنان غارقان في المرض والفشل منذ نصف قرن، وكثرة الحديث عن “العظمة” و”الانتصارات” لا تعني إلا أن الهزيمة تنخر في العظام. أما بالنسبة إلى سلطات الأمر الواقع، فإنه لا يوجد في سورية أو لبنان غير مؤامرة إمبريالية – صهيونية. كل شيء على ما يرام وتحت السيطرة، والشعب يرفل في النعيم، والنظام بخير، على الرغم من أن كل شيء في سورية ولبنان يتجه إلى الأسوأ: الفقر والجوع، الرواتب والأجور، المحروقات، الكهرباء، الخدمات العامة، إهمال السلطات، اليأس والإحباط، الجروح الاجتماعية، خراب السلم المجتمعي… إلخ.
في تشرين الاول/ أكتوبر 1990، لم يكن في لبنان لا مياه، لا كهرباء، لا بنزين، والدولار تجاوز 3 آلاف ليرة، لكن صوت الجنرال ميشال عون كان عاليًا وهو يخاطب أنصاره بـ “شعب لبنان العظيم”. وبعد معارك ضارية احتلت “القوات السورية” قصر بعبدا الرئاسي بتفويض أميركي في 13 أكتوبر 1990، واستسلم عون في 27 أكتوبر 1990، واضطر حينها إلى اللجوء لسفارة فرنسا في بيروت، وظل فيها مدة إلى أن طار إلى منفاه الاختياري في باريس. لكن الجنرال اليوم لا يريد أن يستسلم.
لبنان اليوم أيضًا بلا ماء ولا كهرباء ولا حليب أطفال ولا دواء ولا محروقات، وبشره يقفون ساعات في أرتال مذلة، شأنهم شأن السوريين، ليحصلوا على قليل مما يحتاجون. لبنان اليوم لا يراه أحد بعين الغيرة أو الحسد، باستثناء السوريين.
لا يُتوقّع أن يحدث تغيير ذو قيمة في الأوضاع الراهنة، على الرغم من أن أكثرية السوريين واللبنانيين باتت تدرك أن لا حل لمشكلاتهم إلا بإجراء تغيير حقيقي في بنية النظامين السوري واللبناني، أو في الأحرى النظام السوري اللبناني. نحن السوريين واللبنانيين نعيش في كنف نظام واحد، لكن في بلدين.
كلما شعر اللبنانيون أن الحرب الأهلية أصبحت بعيدة عنهم، يذكرهم بها أركان النظام القائم. في أحداث الطيونة الأخيرة في العاصمة بيروت، في أواسط أكتوبر الجاري على عتبة الذكرى الثانية للانتفاضة اللبنانية، عاد كل شيء دفعة واحدة إلى الوراء، إلى المشاهد التي تملأ مخيلة اللبنانيين؛ مسلحون، ميليشيات منفلتة، إطلاق رصاص، مدنيون هاربون، صراخ وعويل، دماء، تهديدات وتحديات، انقسامات حادة… إلخ.
هل يمكن أن يعيش المرء في ظل نظام يذكره دائمًا باحتمال عودة الحرب بين لحظة وأخرى؟!من سيبقي في لبنان وسورية بعد كل الذي جرى؟ بعد انسداد الآفاق أمام الحياة بأبسط معاييرها؟ يقينًا إن الميليشيات التي خاضت الحروب ستبقى جاثمة على صدور من لا يجدون طريقًا للمغادرة، بما تعد به من تزايد التفسخ الوطني والاجتماعي، وبما تهيئوه من بيئة صالحة لبناء مجتمع حربي، وعداوات مجتمعية، وصراع من أجل لقمة العيش، وشعارات حمقاء لا تطعم خبزًا، ولا تبني حياة في أي مستوى.
أطلقت وزارة الخارجية اللبنانية، منذ إقرار القانون 41 في خريف 2015 وحتى خريف 2017، حملة تهدف إلى إقناع اللبنانيين المغتربين الذين يقدر عددهم بأكثر من 10 ملايين، لاستعادة جنسيتهم اللبنانية، فكان عدد الذين رغبوا في استعادة جنسيتهم اللبنانية 29 مغتربًا فقط، أما باقي المغتربين، فإنهم كانوا، على الأرجح، يستحقرون “الدولة اللبنانية العظيمة”.
أصبح “الخارج” بالنسبة إلى السوريين واللبنانيين في منزلة سفينة نوح، يقفزون إليها، فرحين بنجاتهم من الغرق في البلدين “العظيمين”. تتجه أحلام من بقي في سورية ولبنان إلى الهجرة من بلديهما “العظيمين” والبحث عن حياة أخرى في بلدان الله الواسعة “غير العظيمة”، تاركين بلديهما إلى “العظماء” أبناء “العظماء” ليقاوموا المؤامرة الإمبريالية الصهيونية على هواهم، ووفق حساباتهم “العظيمة”، بميليشياتهم “العظيمة” وأيديولوجياتهم “العظيمة”.
لبنان “العظيم” لا توجد فيه دولة، بل سلطة غاشمة ومافيوية، ويستحيل أن تكون فيه دولة بوجود الميليشيات والسلاح وزعماء الطوائف وقادة الحرب الأهلية، وفي غياب الدولة يغيب مفهوم الشعب، والرأي العام، والوطنية اللبنانية والمواطن اللبناني، وهذا كله لن يجعل من لبنان وطنًا، بل ساحة قتال مفتوحة، تهدأ مدة لكنها لا تلبث أن تنفجر.
هناك إجابات عديدة على سؤال “لماذا فشلنا؟”. لعل أهمها الخطأ في تشخيص قوة السلطات القائمة والاستهانة بما تستطيع فعله، لكن السبب الرئيس يبقى كامنًا في العجز عن ترجمة انتفاضة البشر إلى قوة تغييرية منظمة على المستويين السياسي والمدني، فكل حراك شعبي لا يُترجم إلى قوى سياسية ومدنية، منظمة ومتبلورة، سيكون مصيره الضياع والتشتت.
حازم نهار _ المدن