أحاول أن أصل شاحن حاسوبي المحمول بالكهرباء في إحدى أكثر المقاهي المفضلة لديّ بدمشق، “قهوة مزبوطة”. يُعيقني كُمّ كنزتي عن أمرٍ لا أدري ما هو فأرفعه دون اهتمام. يُحدّق الرجل المجاور إلى يدي اليسرى القريبة منه. كلّ الناس يحدّقون بدهشة إلى شعر يديّ الناعم لأني ومنذ أربع سنوات هجرت وبشكل نهائي عالم إزالة شعر الجسد وخاصة يديّ ورجليّ.
يُطيل الرجل التحديق. ينتابني شعورٌ يقع في منطقةٍ بين الخجل والرغبة في الاعتذار وأحاول أن أخفي يدي تحت الطاولة. نعم، شعرت برغبةٍ عميقةٍ في الاعتذار، كآثمةٍ ارتكبت جرمًا خطيرًا، ولكن على ماذا؟
أحاول أن أتعرّف على هذا الشعور، ولأول مرّة في حياتي أتمكن من القبض عليه ووضعه تحت المجهر. تركض الذكريات لمواقف مشابهة داخل رأسي. أتعثّر بها الواحدة تلو الأخرى.
أذكر تلك المرّة التي خرجت فيها مع شريكي دون مساحيق تجميل على غير عادتي وذلك بعد فترة قضيتها طريحة الفراش بسبب المرض. انتابني نفس الشعور، الرغبة في الاعتذار على مظهري غير اللائق.
أشعر كذلك بالخجل من أناس لا أعرفهم في الحافلة التي أستقلّها كل يومٍ صباحًا بسبب شكلي غير المرتّب، ودائمًا ما أريد أن أوضّح لهم بأنني أستيقظ مفزوعةً على صوت المنبّه وأهرع إلى العمل خوفًا من توبيخي أو طردي لو تأخرّت لذلك لا أجد وقتًا كافيًا كي أهتمّ بشكلي.
دائمًا ما يُعطيني مديري السابق في الشغل ملاحظاتٍ حول شكلي ويطلب منّي باستمرار أن أضع مساحيق التجميل. يحمّر وجهي وأتلعثم في الكلام بالرغم من أنّني أريد أن أصرخ في وجهه قائلة: “أنا هنا للعمل وليس للمشاركة في مسابقة لملكات الجمال”.
نكبر مُعتاداتٍ على العيون التي تتفحّص عيوبنا
مواقفٌ عديدةٌ تكون فيها أجسادنا نحن النساء مُتّهمةً بالخروج عن “معايير الأنوثة”. تُهاجمنا شرطة الأجساد النسائية لأنّنا لم نلتزم بالشروط التي وضعها المجتمع وأعادت إنتاجها المسلسلات والأفلام والإعلانات التي تنتصر دومًا للتنميط والكليشيهات. شكل أجسادنا مهمٌّ في تحديد مكانتنا أمام أفراد مجتمعاتنا الذين يحقّ لهم التعليق على مظهرنا والسخرية منه إن لزم الأمر.
نكبر مُعتاداتٍ على العيون التي تتفحّص عيوبنا، وعلى ذلك الشعور الثقيل بالمسؤولية التي نحملها على كاهلنا كنساء يجب أن يكنّ جميلات وأقرب ما يكون إلى المثالية. نساء يتمتّعن على الدوام ببشرةٍ تنافس بنعومتها بشرة الأطفال، وجهٍ مشرق، شعرٍ مرتب بعناية، وقوامٍ رشيق. حتى أصابع أقدامنا لم تفلت من تلك المعايير، خاصة وأنّها تثير شهوة فئةٍ كبيرةٍ من الرجال “محبي الأقدام”. ليس أمرًا غريبًا أن تجد فتاةً تسأل عن عمليات تجميل لأصابع القدمين!
يشعر الإنسان بطبيعته بالخجل عند ارتكاب الأخطاء ويسعى للاعتذار عنها. ونحن كنساء خجولاتٌ في كلّ الحالات، ونُحاول بشكلٍ غير واعٍ التكفير عن ذنب خروجنا عن المعايير التي فرضتها المجتمعات الأبوية على كلّ إنشٍ من أجسادنا بالاعتذار.
كأيّ امرأةٍ عانت من معايير الجمال الذكورية، لطالما حملت بداخلي جبالًا من العار والخجل من جسدي، من خروجه الفج عن سيمفونية الأنوثة التي نجبر على الرقص على أنغامها.
جميعنا رغبنا بطريقةٍ أو بأخرى في الاعتذار عن تفصيلٍ فينا. نحمل في طيّات لاوعينا شعورًا عميقًا بالذنب والخجل عند خروجنا عن النصّ المكتوب على أجسادنا.
ولست وحدي في كل هذا، ففي جلسةٍ خصصتها مع بعض الصديقات للنقاش حول هذا الأمر الذي بات يشغلني مؤخرًا اتضح لي أننا جميعنا نبحر على هذه السفينة. جميعنا رغبنا بطريقةٍ أو بأخرى في الاعتذار عن تفصيلٍ فينا. نحمل في طيّات لاوعينا شعورًا عميقًا بالذنب والخجل عند خروجنا عن النصّ المكتوب على أجسادنا.
سلمى، صديقتي منذ أيام الإعدادية، متزوجة وأم لطفلٍ رائع، لفتني حديثها عن تجربتها في بداية الزواج، وعن ذلك الخجل الذي لفّ جسدها في ليلة العلاقة الجنسية الأولى. القلق من البطن غير المسطح، من البشرة المكسوّة بالحبوب وندباتها القديمة، وبشكلٍ خاص، من اسوداد الجزء الخارجي من مهبلها. شكّلت تلك الصبغة السوداء بفعل الطبيعة أمرًا قضّ مضجعها وحرمها من الاستمتاع الكلّي بممارسة الجنس. “شعرت برغبةٍ في الاعتذار عن اغمقاق لون مهبلي. كما أنّني لم أجرؤ يومًا على ممارسة الجنس في غرفةٍ مضيئة، لكي لا ينكشف قبح السواد بين قدميّ، فكنت أعمد إلى إطفاء النور قبل المضاجعة كمجرمٍ يخفي آثار ما اقترفت يداه. أنا ممتنّةٌ لزوجي الذي قبل عيوبي ولا يكفّ عن مغازلتي. لم أعد أحسّ بالخجل بفضله”، هكذا لخّصت سلمى حكاية خروجها عن معايير الجمال في مجتمعنا وشعورها حيال ذلك، ولكنّ نظرتنا لأجسادنا وتقبلنا لها دائمًا ما تظلّ رهينة شريكنا وكأنّه لا يُمكن أن نتحرّر من كلّ هذا الثقل بأنفسنا.
حكايات صديقاتي لم تختلف عن حكاياتي. نحن النساء نتربّى منذ صغرنا على أنّ الجمال والسعي إليه فضيلةٌ نسائيةٌ من الطراز الرفيع، فضيلةٌ علينا الركض خلفها. تجتاح هذه الفكرة عقولنا، تتسرّب إلى لاوعينا وتنسلّ بخبثٍ لتشكّل بنية تفكيرنا وردود أفعالنا ونظرتنا إلى العالم المحيط بنا.
إذا ما تجرّأنا وأقلعنا عن اللهاث لتلبية معايير الجمال، ستجلدنا سياط من حولنا، ستسلخ جلودنا عباراتهم وانتقاداتهم وسخريتهم اللاذعة، ستقلع عيوننا الأجساد المثالية المرفقة بعبارة: “يا هيك النسوان يا بلا”. سنصبح من فصيلة “بلا” إذا ما تجاسرنا على ترك شعر أجسادنا ينمو بحرية، وإذا ما أطلقنا العنان لغراماتٍ إضافية من الدهون حول خصورنا، وإذا ما توقفنا عن إظهار أدنى اهتمامٍ بالسعي خلف المعايير الخانقة، كالتخلّي عن استعمال مساحيق التجميل. حتى هذا الفعل البسيط سيترجمه المجتمع على أنه إعلان تمرّدٍ صريحٍ على فضيلة النساء الأولى: السعي خلف الجمال.
أعتقد أنّ معركتنا الحقيقيّة تجاه عقدة الذنب والعار الذي يلفّ أجسادنا تتلخّص في ثنائيّة الوعي واللاوعي. لذلك يجب أن نكون واعياتٍ للمنظومة القمعيّة التي كبّلتنا ونحاول هدم كلّ فكرةٍ تقولب أجسادنا. لسنا سلعةً أو بضاعةً تُفرض عليها معايير الجودة الاستهلاكية والتجارية. يجب أن ننتزع حقنا الأصيل في امتلاك أجسادنا واتخاذ القرارات المتعلقة بها. باختصار، علينا أن نحطّم أسطورة فضيلة السعي إلى الجمال التي أثقلت كاهلنا وأعاقت حركتنا وشوهت علاقتنا مع ذواتنا.
وفي لاوعينا، وهذه العملية أشد تعقيدًا وصعوبةً، لأن الأفكار التي تُغرس في اللاوعي عبر السنين تحتاج إلى جهدٍ مضاعفٍ لمراقبتها والقبض عليها ومحاولات تعديلها، علينا أن نراقب آلة التسجيل الصغير في دماغنا. أن نستمع بحرص إلى محتواها، وأن نعيد تسجيل حقائق جديدة عن أجسادنا، أن نعيد صياغة حكايةٍ نمتلك فيها جميع القرارات المتعلّقة بجسدنا ومظهرنا. أن نعتنق حقيقةً جديدةً مفادها أن الجمال ليس فضيلة النساء الأولى، وأن التمرّد على القواعد التي خطها المجتمع ليس إثمًا.
هذه الرحلة تحتاج إلى الكثير من الصبر والتعلم وخاصّةً الخطأ. يجب أن نسترجع حقّنا في ارتكاب الأخطاء. هذه الرحلة تتطلب الشجاعة وتستحق الشجاعة حتى نتمكن من التصالح مع أنفسنا والمضي نحو عالمٍ أرحب وأوسع.
إلى عالمٍ، لا مزيد فيه من العار والذنب والخجل، ولا مزيد من الاعتذارات عن أجسادنا كنساء.