من المستبعد أن يتغيّر الكثير على صعيد النشاط التجاري والصناعي، كنتيجة لقرار المركزي السوري، الذي طال انتظاره، والذي رفع بموجبه سقف السحب النقدي اليومي من الحسابات البنكية، من 2 مليون إلى 5 ملايين ليرة سورية، إلى جانب رفع سقف السحب النقدي اليومي في حالات بيع العقارات إلى 10 ملايين ليرة سورية.
القرار المشار إليه كانت قد بشّرت به مصادر إعلامية موالية منذ نهاية العام الفائت، ومن المرتقب أن يعقبه قرار برفع سقف المبالغ المنقولة بين المحافظات –والمحدد حالياً بـ 5 ملايين ليرة سورية فقط- ليصبح أكثر من 10 ملايين ليرة سورية.
لكن هذا القرار جاء متأخراً للغاية، وأعقب قراراً صادماً وتقييدياً لنشاط سوق العقارات والمركبات، عبر إلزام البائعين بإيداع 15% من قيمة مبيع العقار، إلى جانب إيداع مبالغ وفق شرائح حسب سنة صُنع المركبات المُباعة. بكلمات أخرى، فإن ما أفرج عنه المركزي من السيولة لتُتاح في الأسواق بغية تنشيط الحركة التجارية، كان قد امتص أكثر منه، قبل ذلك بأيام فقط، عبر تقييد السيولة الناجمة عن البيوع العقارية. فعقار في دمشق، بسعر مليار ونصف المليار ليرة سورية، مثلاً، يجب إيداع 225 مليون ليرة سورية من ثمنه، في البنوك، وبسقف سحب يومي لا يتجاوز الـ 5 ملايين ليرة. أي يتطلب سحب كامل المبلغ خلال 45 يوم عمل رسمي.
كان المركزي قد فرض منذ حوالي العام، قرار تقييد السحوبات النقدية اليومية من البنوك، بغية ضبط السيولة في الأسواق، بهدف الحد من “عَرض” الليرة، وبالتالي، لجم انهيار سعر صرفها. وحدد المركزي حينها، سقف السحب اليومي بـ 2 مليون ليرة سورية. ومنذ ذلك الحين، ارتفعت معدلات التضخم، وارتفعت الأسعار. ورغم أن سعر الصرف استقرّ نسبياً، إلا أن القوة الشرائية الحقيقية لليرة السورية، تراجعت بشكل ملحوظ.
وقد يكون أحد الخبراء الاقتصاديين الموالين، مُصيباً، حينما ضرب سعر صحن البيض كمثال. فحينما حلّق الدولار على حساب الليرة السورية، قبل عامٍ من الآن، ليصل إلى حدود الـ 5000 ليرة للدولار الواحد، سجل سعر صحن البيض، حينها، 5000 ليرة سورية، أي ما يعادل الـ 1 دولار. أما الآن، فسعر صحن البيض بـ 12 ألف ليرة سورية، رغم أن سعر الصرف قرب 3630 ليرة سورية للدولار الواحد. أي أن سعر صحن البيض أصبح بأكثر من 3 دولارات. ذلك يوضح مدى تدهور القوة الشرائية لليرة السورية. ويُظهر أن سقف السحب الجديد -5 مليون ليرة سورية- الآن، قد يساوي حوالي 2 مليون ليرة سورية، قبل عام. أي أن المركزي لم يضخ سيولة حقيقية جديدة في الأسواق، بقراره الأخير.
وبناء على ما سبق، لا نتوقع أن جديداً –إيجابياً- سيضيفه قرار المركزي المشار إليه. فالوضع لن يتغير كثيراً. وستبقى وسائل الاحتيال على قرارات المركزي التقييدية، في تطور، كما في الوسيلة التي أشارت إليها صحيفة “الوطن” الموالية، والتي تحدثت عن لجوء مودعين في البنوك إلى تجارٍ لديهم أجهزة نقاط بيع منفذة إلكترونياً، والاتفاق معهم على عمليات بيع وهمية، تسمح لهم بسحب إيداعاتهم كاملة، عبر نسبة متفق عليها مع التاجر. فالمركزي كان قد حرّر سقف السحب النقدي اليومي من الحسابات البنكية للتجار الذين يديرون عمليات بيع عبر أجهزة نقاط البيع الإلكترونية، بهدف إغراء التجار لاستخدام قنوات الدفع الإلكتروني. وبدلاً من تحقق الغاية الأخيرة، تحوّل التجار أصحاب نقاط البيع الإلكترونية إلى مستثمرين لحساباتهم البنكية لصالح مودعين آخرين، لا يستطيعون سحب إيداعاتهم البنكية كاملة، فيعقدون معهم صفقات تُدر عليهم أرباحاً، من دون أن ينخرطوا فعلياً بأية عملية إنتاجية أو تجارية حقيقية. وهذا أحد الأمثلة على نتائج قرارات المركزي التقييدية للسحوبات النقدية من المصارف. ومن النتائج الأخرى، تهرّب السوريين، قدر استطاعتهم، من إيداع أموالهم في البنوك، واللجوء إلى الإدخار “تحت المخدة”. من دون أن ننسى نتيجة ثالثة، تتمثل في خروج صغار المستثمرين والتجار من الأسواق، نتيجة ضعف الحركة التجارية جراء تقييد السيولة.
بطبيعة الحال، تنهال الانتقادات على أداء المركزي من جانب خبراء واقتصاديين موالين، وعبر وسائل الإعلام الموالية. لكن وقفة منُصفة تجعلنا نتساءل: ماذا لو تخلى المركزي عن سياسة “تجفيف” السيولة من الأسواق؟ وماذا لو فتح سقوف السحوبات النقدية من البنوك؟
قد يكون الجواب مرُعباً. فالاحتمالات في هذه الحالة، مفتوحة باتجاهين، أحدهما، تحليق الأسعار بصورة متسارعة كنتيجة لتراجع كبير في سعر صرف الليرة السورية، جراء إتاحة مجال المضاربة عليها في أسواق العملة مع توافر السيولة. أي أن ارتفاع الأسعار سيلقى دفعاً إضافياً جراء تدهور الليرة مما سيزيد الوضع الحالي سوءاً. فيما الاحتمال الثاني، أن تهدأ الأسواق، مع شعور السوريّ بالثقة مجدداً بالجهاز المصرفي، باعتبار أن إيداعاته متاحة له، في أي وقت، وبأي سقف. المرجحون للاحتمال الثاني كُثر في أوساط الاقتصاديين الموالين، ونقرأ آراءهم يومياً في وسائل الإعلام. لكن الاحتمال الأول يسيطر على هواجس صُنّاع القرار بالمركزي، فلا يتيح لهم الالتفات للآراء المخالفة، ذلك أنهم يعلمون جيداً أنهم يديرون اقتصاداً مُشوهاً، يشكّل “الأسود” منه، الجزء الأكبر، سواء كان مضاربة بالعملة، أو تجارة مخدرات أو تهريب، أو سوق سوداء للبضائع والسلع الأساسية. ففي بلدٍ لا يشكل بيئة جاذبة للاستثمار، وتشح فيه الموارد، وتُغلق قيادتها السياسية الباب أمام أي أُفقٍ لحلحلةٍ تتيح دخول رأس المال الخارجي إليها، لا يبقى أمام المركزي ومسؤولوه إلا إدارة “الانهيار”.
إياد الجعفري _ المدن