يحضرنا قول الشاعر الفلسطيني توفيق زياد: “قتل امرئ في غابةٍ جريمة لا تُغتفر، وقتل شعبٍ آمن جريمة فيها نظر”.
منذ أيام، زار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومعه وزير خارجيته لافروف، “إسرائيل” وفلسطين، وشاركوا في المؤتمر العالمي بذكرى الهولوكوست اليهودي، وحضر المؤتمر أكثر من 40 رئيس دولة، جاؤوا للإعراب عن تضامنهم مع اليهود، باعتبارهم ضحية النازية الهتلرية التي تجسدت في الهولوكوست اليهودي (المحرقة) وقُتل فيها حوالي 6 مليون يهودي، كما تزعم المصادر الصهيونية.
وقد شدد بوتين على تضامنه مع الضحايا، وأن قضية روسيا و”إسرائيل” مشتركة، وركز كثيرًا على الحرب العالمية الثانية، وحذر من إعادة كتابة التاريخ، وإعادة النظر بدور الاتحاد السوفيتي، أو “لا سمح الله” التشكيك في ضحايا اليهود.
في الاحتفال الكبير في القدس، حيث تحدث إسرائيليون عن الضحايا اليهود، وعن جرائم النازية الهتلرية ضدهم؛ بكى لافروف وإلى جانبه زوجة رئيس الوزراء الإسرائيلي، وربما بكى بوتين أيضًا. وهنا نتساءل: كيف يمكن للإنسان أن يكون في داخله إنسانان، واحد “إنساني” وواحد شيطاني. ولكننا تعودنا كذبَ الإعلام والتصريحات الروسية التي تكرر دعوتها بالتمسك بحقوق الدول وسيادة القانون وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، لكنها تفعل العكس تمامًا.
طبعًا، أنا ضد قتل الأبرياء، وبخاصة على أساس ديني أو طائفي أو عرقي، ولكن التاريخ يشير إلى وجود خلط بين السياسة والحقيقة. فالحركة الصهيونية نفسها استغلت إلى أبعد حد محرقة اليهود، حيث كانت تتعاون مع هتلر، وتشجعه على قتل اليهود، لتخلق ذريعة لتهجير اليهود إلى فلسطين، وكذلك لكسب تعاطف ودعم الدول الكبرى لـ “دولة إسرائيل”، علمًا أنها -إسرائيل- ارتكبت جرائم إبادة ضد الشعب الفلسطيني، وسلبته أرضه، واليوم لا يرى لافروف ولا رئيسه مأساة الشعب الفلسطيني، الذي تعرض لتلك الإبادة والتشريد على يد الصهاينة الذين يدّعون المظلومية ويبحثون عن تعاطف دولي مع اليهود.
في بدايات الثورة، عندما اجتمع الوزير الروسي لافروف مع وفد المعارضة السورية في موسكو، برئاسة الدكتور برهان غليون (وكنت عضوًا في ذلك الوفد) وبحضور شخصيات معارضة كبيرة، أتذكر أن لافروف قال يومذاك، ردًّا على إصرار الدكتور برهان على قوله (إننا نقوم بثورة، ولسنا طلاب مناصب وإننا نرفض التراجع) عبارته الشهيرة: “إذن؛ انتظروا بحرًا من الدماء”، وهذا ما حدث بالضبط! وهذا يعني أن الموقف الروسي الداعم للمجرم الأسد هو موقفٌ استراتيجي متفق عليه دوليًا (أميركيًا وإسرائيليًا) وكلّ يساعد بطريقته.
الطائرات الروسية قتلت مئات المدنيين، ومعظمهم من الأطفال والنساء، ودمّرت أسواقًا ومستشفيات ومدارس، وما زالت حتى اليوم تقصف السوريين من أجل بقاء الأسد. ولنا أن نتساءل: هل كل ما تفعله روسيا من جرائم هدفه بقاء الأسد شخصيًا، أم من أجل بقاء النظام السوري الشمولي الذي يشبه النظام الروسي.
قُتل ما يقارب مليون سوري، على يد الأسد وحلفائه والقوى المتطرفة، ودُمّرت سورية نتيجة القصف بطائرات النظام وروسيا، وشُرد داخل البلاد وخارجه حوالي 14 مليون سوري، ويصعب حصر كل النتائج الكارثية المروعة التي حصلت نتيجة الممارسات الوحشية لطاغية دمشق ومن يدعمه.
كل من دعم الأسد، ماديًا ومعنويًا، يتحمّل مسؤولية عن إراقة دماء السوريين. ولا ذنب للسوريين إذ طالبوا بكرامتهم وحرية العيش الإنساني. فاتفق عليهم العالم كله، ليعيق مسيرة ثورتهم ويقمعها، وكانت إيران وروسيا رأس الحربة في تنفيذ الإرادة العالمية، في إجهاض الثورة ومحاولة إركاع السوريين ومنعهم من نيل حريتهم. فهل حرية السوريين خطرة إلى هذا الحد على النظامين في طهران وموسكو؟!
يبدو أن الدعم الخارجي للأسد ليس حبًا بشخصه، بل هو دفاع عن أجندات خاصة بتلك الدول والقوى العالمية التي تريد الإبقاء على نظام الأسد، كجزء من النظام العالمي الذي تسوده شريعة الغاب، وتختفي فيه حقوق الشعوب وطموحاتها في العيش بحرية وكرامة. ويتبلور شعور عميق بأن موسكو مهتمة ببقاء نظام الأسد أكثر من النظام نفسه، لأن موسكو تتمسك به كونه يلعب أدوارًا استثنائية، ويؤدي وظائف تخدم النظام الروسي استراتيجيًا، وليس صدفة أن الأسد نفسه قال، أكثر من مرة: “إن روسيا هنا (في سورية) لتدافع عن مصالحها”. وعندما خاطب بوتين الجنود الروس من قلب دمشق، خلال زيارته الأخيرة إلى سورية قال للجنود: “إنكم تدافعون عن بيوتكم وأهلكم الموجودين في روسيا”، وهذا يشير إلى الأجندة الروسية التي تعدّ معركة دمشق هي معركة موسكو.
ابْتُليَ الشعب السوري بعائلة قذرة ونظام مافيوي فاسد، يقدّم خدماته للشيطان لقاء بقائه في السلطة، وكل ذلك على حساب السوريين الأبرياء. ومن يساعد النظام فهم يشبهونه بالتركيبة والأجندات.
ولكن كل قوى الأرض لا تستطيع الانتقاص من أهمية وقيمة الثورة السورية، وتأثيرها على السوريين وشعوب المنطقة، حيث أصبحت أنموذجًا يحتذى به، كونها ثورة عظيمة قامت ضد نظام أخطبوطي مافيوي عالمي ليس له مثيل في المنطقة والعالم. حتى الذين أعلنوا أنهم مع الشعب السوري أغلبهم فعلوا ذلك ليس حبًا بالثورة، بل لحساباتهم الخاصة التي تقاطعت جزئيًا مع أهداف الثورة.
عرفنا أعداءنا الخارجيين جيدًا، ولكننا لم نحدد بعدُ بالضبط من يساعد هؤلاء الأعداء، من بين السوريين. فالعدو الذي يوجد بين ظهرانينا أخطر من العدو الخارجي المعروف.
الثورة السورية حيّة وجذوتها مشتعلة، ويمكننا الاطمئنان إلى ذلك، لأن ارتداداتها تظهر في العراق ولبنان وقبلها في السودان والجزائر ووووووو.
يكفي السوريين الأحرار فخرًا أنهم فجّروا أعظم ثورة في التاريخ البشري المعاصر. وثورة مثل هذه لا يمكن أن تختفي وتموت، وستظل كالجمر الذي يمكن أن يتّقد في أي وقت. والأحداث الأخيرة في الداخل السوري تؤكد ذلك. فكل مؤشرات الانفجار قائمة، وهي تتوسع، والمهمّ اليوم أن من راهن عليهم النظام وعدّهم موالين له إلى الأبد، بدؤوا يتململون، لأن الكارثة بدأت تخنقهم بالمعنى الحرفي للكلمة، ومن الصعب جدًا خداع الناس بالوعود والشعارات الطنانة الكاذبة، فالواقع مليء بالمصائب التي تمس حياة الناس بقوة، من قلة الغذاء والماء والكهرباء والغاز، وعلى رأسها تدهور سعر الليرة وارتفاع الأسعار بشكل جنوني. في وقت يعرف السوريون أن عائلة الأسد، ومن معهم من تجار الحرب، كسبوا المليارات على حساب دماء السوريين ولقمة عيشهم. ونتمنى أن يتم تفعيل تأثير قانون قيصر لمعاقبة النظام ومن يدعمه، على مبدأ “إذا ما كبرت ما تصغر”.
محمود الحمزة_ موقع جيرون