منذ نحو شهر، كتبنا في هذه الزاوية متوقعين قفزات آتية لـ “دولار دمشق”. يومها، كان قد تجاوز حاجز الـ 4000 ليرة سورية. ومنذ ذاك الحين، واصلت الليرة تراجعها، ليُغلق الدولار مساء السبت عند 4530 ليرة، وهو أعلى سعر مبيع منذ أكثر من سنة وخمسة شهور. أي أن الليرة خسرت أكثر من 13% من قيمتها، خلال الشهر الأخير. وقد خسرت نحو 30% من قيمتها مقارنة بالسعر الرائج قبل نحو عام. فكيف تعامل مصرف سورية المركزي، مع هذا التدهور المتسارع؟
يوم الاثنين الفائت، أصدر المركزي بياناً مقتضباً، حمّل فيه “المضاربين” مسؤولية انهيار سعر الصرف، متوعداً بالتدخل. وبعد يومين، مرّر مصدر “مجهول” في المركزي، عبر صحيفة “الوطن” المقرّبة من النظام، تصريحات أوضحت كيف يعتزم المركزي “التدخل”. إذ قال إن المصرف “ينتظر الوقت المناسب لإعادة الاستقرار إلى سوق الصرف”. مشيراً إلى أن “المضاربة” الحاصلة منذ أيام، هي فعل “ممنوع”، في تلويح بـ “الحل الأمني”. كما أنه ألمح إلى المزيد من تقييد الاستيراد.
في الأيام التالية، تبنت بعض التحليلات التي نشرها الإعلام الموالي، رواية المركزي عن سبب تدهور الليرة، مطالبةً باستهداف شبكات المضاربين الكبار. ولم تتطرق تلك التحليلات الى دور المركزي ذاته في دعم “المضاربين الكبار”، بأساليب عديدة، أبرزها، إتاحة استلام الحوالات المصرفية لما فوق الـ 5 آلاف دولار، بالقطع الأجنبي، فيما يتسلم السوريون البسطاء، حوالاتهم الصغيرة التي يعتاشون عليها، بالليرة السورية، حصراً. وفيما يتلقى رجال الأعمال والصناعيون والتجار، حوالاتهم بالدولار، بذريعة حاجتهم إليه لتمويل مستورداتهم، تزداد السيولة المتاحة بين أيديهم للمضاربة التي يجدونها أجدى من الإنتاج في سوق منكمش، تنهار القدرة الشرائية للمستهلكين فيه.
لكن، في مقابل التحليلات المُبسّطة، التي حصرت التراجع الأخير لليرة بأثر “المضاربة”، ارتفعت أصوات موالية تنتقد سياسة المصرف في تثبيت سعر الصرف، بأي طريقة كانت، حتى لو على حساب حركة الإنتاج وتراجع القدرة على التصدير. وهو ما ذهب إليه فارس الشهابي، رئيس غرفة صناعة حلب، كمثال. فيما ذهبت أصوات أخرى، إلى تحميل الحكومة مسؤولية تدهور الليرة، بعد رفع سعر البنزين، مما زاد من التضخم، وتدهور القدرة الشرائية، كما قالت وزيرة الاقتصاد السابقة، لمياء عاصي، كمثال أيضاً.
إلا أن أقسى التصريحات الصادرة، كانت لمدير المكتب المركزي للإحصاء، سابقاً، شفيق عربش، الذي قال إن الطبقة الفقيرة في سوريا باتت تشكل 93%، فيما تشكل طبقة الأثرياء وحيتان الأسواق والتجار، والتي ظهرت بعد الحرب، نسبة ما بين 5- 6%. فيما اختفت الطبقة المتوسطة تقريباً. وأشار عربش، وهو أستاذ اقتصاد في جامعة دمشق، إلى أن “الشعب هو من يصرف على الحكومة”، وأن سياسات هذه الأخيرة، تسهم أكثر في إفقار الناس.
وقد يكون هذا أدق توصيف لسبب التدهور الأخير لليرة. فالاقتصاد بات يعتاش بصورة كبيرة على حوالات السوريين القادمة من الخارج. لذلك، كان من المتوقع تدهور الليرة جراء تراجع حجم الحوالات، كنتيجة للتضخم العالمي، وبالتالي، ازدياد الضغط المعيشي حتى على السوريين في الخارج، وانعكاس ذلك على حجم ما يرسلوه لأهلهم في الداخل. هذا السبب المباشر، لأزمة سعر الصرف الأخيرة، يُضاف إلى جملة أسباب أخرى، أخذت تتفاقم مؤخراً. فتراجع القدرة الشرائية للسوريين، بصورة غير مسبوقة، قلّصت حركة الإنتاج المحلي، وجعلته غير مُجدٍ اقتصادياً، مما أدى إلى انكماش الصادرات. وهو ما قلّص من حجم القطع الأجنبي المتأتي من هذه القناة، أيضاً. وكمثال على ذلك، وصل سعر كيلو الفروج الحي مؤخراً، إلى 11 ألف ليرة سورية، وهو أعلى سعر في تاريخه على الإطلاق. جاء ذلك نتيجة خروج شريحة من المنتجين من السوق، بسبب انخفاض سعر المبيع قبل أسابيع، عن سعر التكلفة، جراء دخول الفروج المهرّب من لبنان، بأسعار أقل، مما تسبب لهذه الشريحة بخسائر كبيرة. وفي المحصلة، تقلّص حجم الإنتاج، فارتفع السعر مجدداً. لكن لماذا بات الفروج في لبنان أرخص من سوريا، بحيث بات يُهرّب إليها؟ الجواب يكمن في ارتفاع تكاليف العملية الإنتاجية في سوريا، من محروقات وأعلاف وتكاليف نقل، بصورة حدّت من قدرة المنتج السوري على المنافسة مع منتجات مشابهة في دول الجوار. وهذا لا ينطبق على الفروج فقط، بل على منتجات سورية كثيرة أخرى. فسوريا التي كانت تنتج أرخص السلع في محيطها، باتت عاجزة عن ذلك تماماً. ومع انخفاض الإنتاج المحلي، وبالتالي تراجع التصدير، لصالح الاستيراد، سيزداد الطلب على القطع الأجنبي محلياً، مما سيفاقم من تدهور الليرة.
وكما أشرنا آنفاً، فإن المركزي سيعالج هذه الأزمة بحلول قصيرة الأمد، ومضرّة في آن. إذ سيشن حملة على الصرّافين، لخفض السعر أو ضبطه، في المدى القريب والمتوسط. كما وسيقيّد الاستيراد. وهو ما قاله المصدر “المجهول” في المركزي، لصحيفة “الوطن”. إذ قال إن في سوريا ما يكفي حاجة الأسواق من مواد غذائية أساسية حتى نهاية العام، وأن لا ضرورة لمزيد من الاستيراد في الوقت الحالي. وبذلك، سيغلق المركزي باب الطلب على القطع الأجنبي، بغية الاستيراد، مؤقتاً. وهو ما سينعكس شحاً في معروض السلع، وتحليقاً في أسعارها، أكثر. لكن المركزي سيقول للملأ: “لقد نجحنا في تخفيض سعر صرف الدولار”. أما التضخم المنفلت من عقاله، فسيواصل إلتهام قدرة السوريين على العيش، أكثر فأكثر.
إياد الجعفري _ المدن