على إحدى صفحات فيسبوك، قرأت قصة شخصية كتبتها سيدة لبنانية، تحدّثت فيها عن لجوئها مع عائلتها إلى سورية فترة الحرب الأهلية اللبنانية في السبعينيات، ذكرت فيها أن المجتمع السوري كان محافظاً وضاغطاً، لا يتمتع أفراده بالحريات الشخصية والعامة، وأنها كانت تحاول العودة إلى لبنان، ولو هرباً من عائلتها، إذ لم تكن معتادة على تحمّل الضغط الاجتماعي الذي كان مفروضاً عليها من عائلتها، خشية أن تتعرّض للأذية من أحدٍ ما. أتذكّر في هذا السياق، عام 1980 كنت أحبّ شاباً، وكنا نلتقي أحياناً في أحد شوارع منطقة باب توما الفرعية في دمشق، ولا نفعل شيئاً سوى المشي والكلام ونحن متشابكا الأيدي، حين تعرّض لنا ذات يوم رجل “حِمش”، وأسمعنا شتائم قذرة، وانهال بالضرب على الشاب الذي كان معي. كانت شتائمه كلها تتعرّض لشرفي وشرف عائلتي “التي لم تربّني تربية صالحة”.ولمن يعرف دمشق جيداً فإنه يعرف أن منطقة باب توما كانت دائماً منطقة مختلطة في تنوّعها المذهبي والديني. ومع ذلك، كان هذا السلوك موجوداً لدى بعض سكانها. وللمفارقة، شهدت منطقة باب توما نفسها، لاحقاً، سلوكاً جمعياً أكثر عنفاً وتطرّفاً من سلوك الرجل “الحمش” الذي تعرّض لي وصديقي، إذ كانت باب توما من المناطق التي تعرّضت لغزو شبيحة رفعت الأسد، أو من سمّوا يومها المظليين، الذين نزلوا إلى شوارع دمشق، وبدأوا بنزع حجابات السيدات والفتيات اللواتي كن يمشين في الشارع، وهم يردّدون الشعار “تحجب ما بدنا نشوف بدنا نمشي عالمكشوف”. وكانت تلك الهجمة من أعنف وأشرس ما قامت به مجموعات “مدنية” ضد مدنيين آخرين في المجتمع، ما كان له أثر كبير على العقد الاجتماعي السوري، وكان بداية الانقسام الذي ظل عقوداً تحت السطح، حتى انكشف تماماً بعد 2011، انكشف وانفجر مُطلقاً كل العفونة التي اختزنها طوال العقود الماضية.
بعد ثمانينيات القرن الماضي، بأحداثها السياسية والاقتصادية، حدث تغيّر كبير في المجتمع السوري، ساهم فيه ظهور طبقاتٍ اجتماعية جديدة، أثْرت واغتنت من الفساد الذي كان يمتدّ وينتشر، هذه الطبقات أتت بنمط حياة مغاير للنمط المديني المحافظ في أغلبه، نتجت عنه مجموعاتٌ تمارس حرياتها الفردية، ولا يتم التعرّض لها، لكنها تحت المراقبة والرصد، في حال تم انزياح بعضها نحو ما يزعج النظام، حينئذ تصبح الحرية الفردية قضية تمسّ أمن البلد القومي، على عادة كل أنظمة الاستبداد العربي. ونتج عنه أيضاً تقوقع المجموعات البشرية على ذاتها، وجهلها بعضها ببعض، وهو ما أدركه السوريون جميعاً بعد الثورة 2011، وبعد استخدام شرائح واسعة من السوريين وسائل التواصل الاجتماعي، وبعد حركة اللجوء الكثيفة إلى دول أوروبا، ظهر فجأة أن سوريين كثيرين لا يصدّقون أن ثمّة سوريات كن يعشن في سورية، كما يعشن الآن في أوروبا، وأن ذلك لا علاقة له بحرية المجتمع الأوروبي، مثلما اكتشف سوريون آخرون أن هناك مناطق بأكملها تم تهميشها تماماً تنموياً واقتصادياً وتعليمياً، حتى لم يبق لها سوى التدين الشديد بوصفه أمانها الوحيد، وأن هناك انقساماً طبقياً متخفياً في ظل الانقسام المناطقي، اكتشف السوريون أيضاً مع صدمة اللجوء إلى بلدان الغرب المنفتح أن الحياة ليست فقط كما عاشوها، وأن هناك ثقافات أخرى مختلفة كلياً، فيها من الانفتاح الجسدي والجنسي ما لم يخطر يوماً في بالهم.تنتج الحروب واللجوء صدماتٍ متتالية لأبناء البلدان التي تشبه بلداننا. في الحرب الأهلية اللبنانية، كانت الصدمة متبادلة بين اللبنانيين القاصدين سورية وبين السوريين، فعلى الرغم من أن لبنان، حتى منتصف القرن الماضي تقريباً، كان جزءاً من سورية، إلا أن الثقافة المجتمعية اللبنانية تختلف كلياً عن الثقافة السورية، وهو ما أنتج تلك الصدمة، بينما لم يشعر اللبنانيون الذين لجأوا إلى دول أوروبا وأميركا وقتها بأية صدمة حضارية، ولم يعانوا من موضوع الاندماج، على عكس السوريين الذين لجأوا إلى أوروبا في السنوات العشر الماضية، قسم كبير منهم يعاني حقاً من موضوع الاندماج، ومن محاولات التأقلم مع الثقافة المجتمعية الجديدة، فيزدادون تقوقعاً وتمسّكاً بما اعتادوا عليه، فما يسمع عن حالات الاعتداء والقتل بداعي الشرف، وغيره من الجرائم التي يرتكبها سوريون ليسوا أساساً مجرمين، سببها الصدمة المريعة مع المجتمعات الجديدة، والخوف من الحرية التي قد تعتاد عليها نساؤهم (زوجات وبنات وأخوات)، بينما لم يُسمع عن السوريين الذين قصدوا البلاد العربية واستقرّوا فيها حوادث جُرمية تذكر، فهم يعيشون في سياقٍ مشابهٍ لسياق عاداتهم وثقافتهم المجتمعية.
رشا عمران _ العربي الجديد