syria press_ أنباء سوريا
ساهمت الثورة التكنولوجية ومواقع التواصل الاجتماعي في غزو عقول النساء ورسم أدوار جديدة لهن، ما ساعدهن على كسر تقاليد العمر والعيش خارج القاعدة التي رسمتها المجتمعات للمراحل العمريّة للفرد بما يمكنهن من التغلب على الشيخوخة.
لم تعد صورة المرأة الجميلة الفاتنة التي شارفت على مرحلة منتصف العمر ومازالت تحتفظ بكامل أنوثتها حكرا على الفنانات الشهيرات وعارضات الأزياء والمغنيات، بل إن رياح التغيير قد هبت على أغلب النساء اللاتي أصبحن يفضلن العيش خارج القاعدة التي رسمتها المجتمعات للمراحل العمريّة للفرد، مما يمكنهن من التغلب على الشيخوخة.
وتعتبر اللبنانيّة ناهدة مدرّبة الكاراتيه، الحاملة لحزام أسود والبالغة من العمر 84 عاما، واحدة من اللواتي أبهرن الجمهور بحضورها الجميل وقوتها الجسديّة في برنامج أحمر بالخط العريض الدي عرض على قناة “إم.بي.سي” اللبنانية، للإعلاميّ مالك مكتبي، وكانت محط مفاجأة للمشاهدين والمشاهدات، حيث من النادر جدا رؤية امرأة في هذا الجيل البيولوجيّ وبهذا الحضور الشبابيّ والقوة البدنيّة.
وقالت ناهدة خلال المقابلة، إنها لا تريد أن تُعامل على أنها شابة بشكلها الخارجي وشكل حياتها، فهي الأم والجدّة الفخورة، كما أن لأحفادها أبناء أيضا. وهي ترى أن نمط حياتها وحضورها هو شيخوخة أيضا، كما ترغب أن تكون شيخوختها بلا انتقاص من كل مرحلة عمريّة عاشتها، وتقديرا لمرحلتها العمريّة اليوم وهي ما بعد الثمانين عاما.
وأكدت الكاتبة الصحافية الفلسطينية رشا حلوة في تعليقها على تصريحات ناهدة أنها تمثل نموذجا ترغب العديد من النساء في تحقيقه، كما نماذج عديدة لنساء في العالم وصلن إلى جيل الثمانين والتسعين، أي جيل الشيخوخة، ولكنهن مازلن يعملن كعارضات أزياء وراقصات ومغنيات.
وقالت حلوة “ببساطة، عندما نذهب إلى حفلة رقص، ونرى امرأة ورجلا في الثمانين من عمرهما، يمارسان حياتهما بطبيعيّة كاملة كما غالبيّة الحاضرين من الجيل الأصغر سنا، وذلك لأنهما ببساطة ييعشان خارج القاعدة التي رسمتها المجتمعات للمراحل العمريّة للفرد”.
وأضافت “هذه الأدوار الاجتماعيّة التي تُفرض على الأفراد وفقا لجيلهم، تلزمهم أن يمشوا حسبها، خاصّة إن كانت امرأة وفي ظلّ أدوارها الاجتماعيّة والجندريّة التي وُظّفت لها منذ طفولتها، والتي هي بالضرورة، وفقا لهذه الأدوار، تعيش دوما من أجل الآخرين؛ عائلتها، أبناؤها وبناتها، زوجها وأحفادها، حيث من النادر أن تعيش من أجل نفسها. وفي كل القصص التي سمعنا فيها عن امرأة مسنّة مازالت تمارس حياتها كما تشاء، نتفاجأ بالضرورة، للإيجاب وللسلب أيضا”.
شغف بالحياة
أشارت حلوة إلى أن نموذج ناهدة برغم وجوده يبقى نادرا جدا في العالم العربي، وذلك لأسباب عديدة، أوّلها الظروف الحياتيّة الصعبة والقاسية في الكثير من البلدان، والظروف التي يعيشها البشر في معظم الفئات العمريّة، والنساء على وجه الخصوص. كما أن هنالك صعوبة للوصول إلى العلاجات الصحيّة والنوادي الرياضيّة وقلة توفّرها، إضافة إلى الظروف السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة التي تثقل على حياة الكثيرين، فتصبح المعركة على الحياة والعمر المديد، في الكثير من الأحيان، ليست في متناول اليد أو القرار الفرديّ.
ولمحت إلى أن ناهدة تعد من أكثر النماذج النسائيّة التي حظيت بنقد مستمر لشكل حياتها، مقابل الحبّ والتقدير الهائليْن لها ولقراراتها الحياتيّة. وكانت المغنيّة اللبنانيّة صباح، التي لم يمنعها كبر سنّها من أن تواصل الغناء والحبّ وبناء شراكات زوجيّة حتى رحيلها، شكّلت صورة جميلة وحقيقيّة عن الشغف بالحياة وحقها بها وبما تمنحها من عواطف خلال مراحلها العمريّة المختلفة.
وأسوة بناهدة تعمل السبعينية فاطمة المقيمة بحي راق بتونس العاصمة على أن تكون في كامل أناقتها ولياقتها، فهي لا تغادر قاعات الرياضة وهي حريصة كل الحرص على ممارسة التمارين الرياضية وحضور حصص التدليك وزيارة محل الحلاقة كل أسبوع، وهو روتين يومي لا ترغب في التخلي عنه.
وتؤكد فاطمة لـ”العرب” أنها أم لثلاثة أولاد وهي جدة للمرة الثانية، لكنها منذ أن حصلت على التقاعد من عملها بالبنك قررت ألا تهب حياتها إلا لنفسها، خصوصا وأن أولادها الثلاثة قد تزوجوا واستقلوا بحياتهم.
ولا ترى فاطمة عيبا في أن تظل في كامل أنوثتها حتى لو وصلت إلى الشيخوخة، فكما كانت تعتني بنفسها لدى ذهابها إلى عملها ستظل كذلك حتى بعد أن غادرته.
وأشارت إلى أنها تعشق السفر وقد زارت كثيرا من البلدان، لكن فايروس كورونا قد منعها من ذلك، مؤكدة أنه حالما تنتهي الجائحة ستعود لممارسة هوايتها المفضلة.
ويرى الدكتور الصحبي بن منصور المؤرخ التونسي وأستاذ الحضارة الإسلامية بجامعة الزيتونة، أن مواقع التواصل الاجتماعي فتحت آفاقا جديدة أمام مختلف الشرائح ومنها بالخصوص الفئات النسائية، لاسيما المتقاعدات، فاندمجن في هوايات ذات طبيعة فنية واستطلاعية من قبيل الغناء والرقص والمشاركة في الرحلات السياحية والثقافية في هذه المدن أو تلك، وكل ذلك بغاية الانشراح والاستمتاع بالحياة وجمالها. ومن النساء من اخترن قضاء الوقت في التواصل مع الآخرين، ومدهم بالنصائح وتقديم زبدة تجاربهن وخبراتهن لهم، علاوة على التفنن في بعض الهوايات من طبخ وفن وسرد.
ويقول بن منصور إنه في مقابل هذه الفئة التي تستسلم لقدر الشيخوخة وتعمل في الأثناء على التزود بالطاقة الإيجابية من خلال ممارسة الأنشطة المذكورة، توجد طائفة أخرى من النساء تتحدى الشيخوخة وتسعى إلى كسر مدها العالي من خلال ركوب صهوة الرياضات البدنية، سواء للمحافظة على سلامة صحتهنّ أو لاستدامة جمالهن ورشاقة أبدانهنّ.
ويضيف أنه “خلافا لرغبات جلّ النساء في تأخير مظاهر الشيخوخة أو محاربة زحفها على وجوههن وأجسادهن، وملء أوقات الفراغ بممارسة الهوايات المفضلة لديهنّ، تنشغل بعض التونسيات المتقدمات في السن بالتحصيل العلمي، وهذا ما يمكن معاينته مثلا في مدارج الدراسة بجامعة الزيتونة، حيث تدرجت بعض المتقاعدات من مرحلة الإجازة إلى مرحلة الماجستير في انتظار بلوغ مرحلة الدكتوراه، حبا في تمضية العمر في الأعمال النافعة وأفضلها تحصيل العلم والمشاركة في بثه. وفي كلية الآداب والفنون والإنسانيات صفق الإعلام التونسي كثيرا منذ سنتين لطالبة دكتوراه ناهز عمرها تقريبا الثمانين سنة، لأنّ ليس للعلم سقفا عمريا، ثم تشجيعا لظاهرة إقبال متقدمي السن على التحصيل المعرفي وعلى التكوين في الحرف ومنافسة الشباب في مقاعد الدراسة”.
ويتابع “كلنا يعلم أنّنا نحمل الكثير من الرؤى المجتمعية المؤذية من قبيل ربط العمل بالمال وبسقف عمري، فإذا بلغه المرء تولد فيه الإحساس بأن صلوحيته الاجتماعية قد انتهت، وأنّه أصبح غير ذي فائدة في الحياة، وأنه لا فائدة مالية ممكن أن يحصلها إلا ما تدره عليه الصناديق الاجتماعية، الأمر الذي يجعله عرضة للإصابة بحالات الاكتئاب المؤذي”.
ويشار إلى أنّ النظر إلى الحياة على أنّها تنحصر في العمرين الزمني والبيولوجي يعد أكبر خطأ يحطّم نفسية المتقدمين في السن، وعليه فإنّ كسر جدار هذا الخطأ يتمّ عن طريق تثمين العمرين النفسي والمهني، بما يرفع من القدرات الوظيفية للنساء المصرات على مواصلة العمل في تحدّ لعوارض الشيخوخة وحتى للمرض المرتبط بها، بما يجعلنا نتحدث عن الشيخوخة المفيدة أو السلمية ويجعلها تسيطر بشكل يضرب المثل في قوة الإرادة على التغيرات التي يواجهها الإنسان عند تقدمه في السن.
موروثات ثقافية
يرى علماء الاجتماع أنه مع ازدياد العمر، هناك رغبة في كسر كل التقاليد المتعلّقة بالكيفية التي يجب أن تكون عليها الشيخوخة أو كيف على النساء كبيرات السّن أن يعشنَ، مشيرين إلى أن نزع الحق من المسنّين والمسنّات لممارسة الحياة كما يرغبون ويرغبن يعد عملا لا أخلاقيا.
وأكد علماء الاجتماع أن المرأة التي تبدو في الثمانين من عمرها ومازالت لديها رغبة في السّفر والتعلّم والرّقص، وتقوم بذلك، تتعرض إلى التنمر، وبالتالي يشبه هذا نزع الحق بالحياة ممن يرغب بأن يمارسه كما يشاء، بلا علاقة لعمره.
وقال الطيب الطويلي “من الجلي أن الموروثات الثقافية الشرقية قد خلفت استقالة الذكر من كل ما يتعلق بالأعمال المنزلية، بما في ذلك تربية الأبناء وتنشئتهم الاجتماعية وإعدادهم للاندماج في المجتمع. وبذلك كان دور المرأة محصورا في مهام المنزل وأعبائه، ومهما ارتفع شأنها العلمي أو مكانتها الاجتماعية والوظيفية، يبقى المنزل بكل أدواره حصريا للمرأة الشرقية. ورغم أن هذا الدور محوري في بناء الإنسان للأجيال القادمة، ورغم أن دور المرأة أساسي في توازن الأسرة التي تعتبر النواة الصلبة للمجتمع، إلا أن الذكر غالبا ما يستعمل هذا الدور الحصري بشكل سلبي لفرض علويته الذكورية في الأسرة. حيث يقوم في أحيان كثيرة باستغلال المرأة وإعطاء أوامره ومعاملتها كخادمة له ولأبنائه، وذلك لتحيين نزعته الذكورية وإعادة استحضار أدوار المرأة التقليدية التي تشكلت في المخيال العربي منذ قرون”.
وأضاف المختص التونسي في علم الاجتماع لـ”العرب” أن المرأة تبقى مرتهنة للتمثلات الجندرية للمجتمع لها ولصورتها في المخيال الشعبي الذي يطوّقها ويقيّدها في حركاتها وسكناتها داخل الإطار الأسري وخارجه. ورغم المشاريع الكبرى لتحديث المجتمع التونسي من طرف الدولة الوطنية، إلا أن تمظهرات العنف الرمزي ضد المرأة والتعسف الذي يميّز نظرة المجتمع والذكر لها يبقا متواجدين حتى مع تقدّمها في السن.
فمع تقدّم المرأة في العمر ومع زخم ضغوط مشاريعها الأسرية التربوية والشغلية، ومع دخولها في أزمة منتصف العمر وتغير ميولها ورغباتها ونزعاتها نحو تغيير نمط العيش، تكون في حاجة إلى تعزيز ثقتها بنفسها عبر المزيد من الاهتمام من طرف الزوج وعبر المزيد من تفعيل أدوارها المجتمعية. ولكنها تصطدم بقيود مجتمعية تحدّ من مساحة فعلها الاجتماعي عبر أفراد تحكمهم النظرة التقليدية، فقد يتنمّرون على تواجدها في بعض الأعمال التي يعتبرونها فضاء خاصا للذكر، أو على شكلها إذا كان يميل إلى التحرر والتغيير. كما أنها قد تواجه بالبرود العاطفي والجنسي للشريك، الذي تجبرها القيود الاجتماعية على تغليفه بالصمت والمواراة، مما يولّد مشكلات نفسية واجتماعية أعمق وأشد.
وأكد أن النساء يذهبن إلى أنشطة مختلفة مثل الرياضة والفنون مثل نوادي الغناء والرسم كمتنفس عن بعض المكبوتات المخزنة داخلهن، وينشطن بكثافة في المجتمع المدني والفعل السياسي وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك للتعبير عن الرغبة في التحرر من مكبلات القيد الأسري والقيود المفروضة من المجتمع، ولقد نجحت المرأة في تونس في هذا إلى حد بعيد.
وبعيدا عن ردود الفعل المجتمعيّة تجاه كبار السّن، وخاصّة النساء منهم، واختيارهن لنمط حياة “مخالف” للقواعد العمريّة والجندريّة، يرى المختصون أن القصص لنساء كبيرات في السّن، رتبنَ شيخوختهن كما يشأن، وعملنَ على ملاءمتها لرغباتهن، هي نماذج ذاتيّة غالبا، خاضعة لظروف عديدة، منها التي تسهّل المعركة على الحياة، ومنها التي تجعلها مستحيلة. لكنها بنفس الوقت، هي قصص تعيد الاعتبار للحياة بمراحلها العمريّة، للشيخوخة كمرحلة حياتيّة وليس تجهيزا للموت، وبإمكانها أن تتيح متسعا لتحقيق الرغبات الفرديّة، مع كل الخوف والحقائق المضادة لذلك.
وتقول حلوة إنه في حال ناهدة ونساء أخريات مشابهات لها في شيخوختهن “غير التقليديّة”، هن إثباتات مهمّة لنساء سيعشنَ دوما كما يشأن، ورغما عن كل شيء، بما في ذلك تقدّم العمر.
راضية القيزاني _ العرب