التاريخ يقول: القضايا التي يناقشها المنتصرون، تختلف تماماً عن القضايا التي يناقشها المهزومون!
حالة المجتمع السوري وتشظياته، والسوشال ميديا، ونشاط المجتمعات النسوية، ونمط الحياة الجديدة في أوروبا، وحرية الفردانية جعلت ما يمكن أن يُنَاقش في عدة أجيال، يتمُّ نقاشُه خلال عقد واحد من الزمان، إضافة إلى أن عدم نجاح الثورة السورية جعل كثيرا من مناصريها “يشتغلون ببعضهم” بدل أن ينشغلوا بمقارعة النظام العنيد، لذلك باتوا يخوضون حروباً ومناقشات ما كان لهم أن يخوّضوا فيها لو انتصرت الثورة في سنواتها الأولى، لأنه وقتها سيكون الانشغال بالقضايا العامة وبناء الدولة الجديدة هو الأبرز.
لكن لعله من حسنات “عدم الانتصار السريع للثورة” أنه أتاح لنا أن نتعرف إلى من نعيش معهم، أو نصادقهم بصفتهم أشخاصاً عاديين، يبكون ويفرحون، ويفشلون، وتحطُّ الخيبة في ديارهم طويلاً.
كنا في سوريا أبناء مجتمع تحكمه عوامل رئيسة ثلاثة هي: العسكرة، والدين، والبعد الاجتماعي وأعرافه تبعاً للطبقة الاجتماعية أو المدنية. وكنا رجالاً ونساء مقتنعين، أو مكرهين أن هذ الجوانب هي التي ترسم معظم خيارات حياتنا.
بالتأكيد يبقى للأفراد “بحبوحة” من الحركة، لكنها ليست كبيرة، لذلك لم نكن بحاجة لمناقشة كثير من التفاصيل، فهي متروكة للظروف المحيطة بنا، إضافة إلى أن إيقاع الحياة ومتطلباتها بسوريا لا تعطي الأفراد كثيرا من الوقت لمناقشة كل التفاصيل أو القناعات، أو السنياريوهات، لأن حاجة معظم الناس لبعضهم، والرغبة بمكاسرة الحياة تجعلهم يغفرون، أو يتجاوزون، أو يغضّون النظر عن هفوات الآخرين!
***
لم تكن السيدة التي كلفني مكتب اللاجئين بمحاولة إصلاح مشكلتها مع زوجها من الشكّاءات، يبدو أن لديها من الثقة بتجربتها وشخصيتها ما مكّنها من التخلص مما يمرّ معها من مشكلات –كما قالت لي- عبر الحوار مع من تختلف معهم، أو الابتعاد عنهم، أو الانشغال بإنجاز أشياء جميلة كي تنساهم دون أثمان!
صدمتها، هذه المرة، كانت كبيرة، تقول السيدة: كنتُ أعوّل على حدسي بقراءة الأشخاص، ولم يخطر ببالي يوماً أن زوجي ممن يُسَمَّون بـ “النسونجي” أو من الميّالين لتعدّد الزوجات! ولم يسبق لي أن لاحظتُ إشارات في نمط شخصيته أو موبايله مما يمكن أن يثير ريبتي!
في الوقت نفسه أنا سيدة جميلة، أو لِنقل: أنيقة، وأهتمُّ بنفسي بحدود المعقول، بالتأكيد لم أكن مدمنة على المساحيق وأدوات التجميل، لكنني كأي امرأة لا بد من أن أعطي جسدي وتفاصيله شيئاً من الاهتمام الذي يرضيني كأنثى أولاً، وكامرأة ينظر المجتمع إلى مظهرها ثانيا، وكذلك أن أكون سيدة أنيقة أمام زوجي وعائلتي!
كان ثمة حالة استقرار في حياتنا الزوجية، خاصة أن الطبقة الاجتماعية، التي ننتمي إليها جعلت امرأة متعلمة مثلي، تستبعد فكرة أن زوجها يمكن أن يتزوج عليها، أو أنه مع خيار تعدد الزوجات لأنني أنا الأخرى (في لحظة مساواة وعدالة) ضد تعدّد الأزواج، هذه “طريقتي الحالمة” بمقايسة الأمور في الحياة!
في سياق المناقشة ضمن سهرة عائلية مرّ الحديث بمشكلة “تعدد الزوجات”، بادرتُ بالإشادة بزوجي، وأنه “ضد فكرة الزواج الثاني” وأن لديه أسبابه المدنية والاجتماعية والفكرية والدينية، واستشهدتُ بمواقف، سبق أن مرت معنا في حياتنا، وأن زوجي أخذ موقفاً حاداً من كثيرين في محيطه تزوجوا، أو كانوا لا يرون مانعاً من التعدد في الزوجات، وركزتُ على فكرة إيمانه بالعدالة والانتماء إلى منظومة قيمية محددة تليق به، واهتمامه بالشأن العام!
كانت مفاجأتي في إجابة زوجي، حين قال: من الصعب أن أتفق معك فيما قلته، وفي الوقت نفسه، من الصعب أن أختلف معك كذلك!
استغربتُ إجابته، خاصة أن لمعةً في عينيه لم ترحني، اعترضتُ: كيف يعني؟
من كُتبِ الجدل السياسي وفن المفاوضات تعلمتُ أنك إذا أردتَ أن تشتّت موضوعاً أعده إلى الأسس الفكرية والثقافية، وهي مصطلحات مطّاطة يمكن أن تحوّل الحق إلى باطل والباطل إلى حق، هذا رأيي الشخصي أنا التي ترى السياسة مضيعة وقت!
قال: علينا أن نفرق بين عدة أمور، نحن متزوجان بعقد وفق قانون الأحوال الشخصية السوري، وهو قانون لا يسمح ولا يمنع تعدد الزوجات، بمعنى أنه لم ينص عليه، وبما أن ذلك القانون مستمد من الشرع؛ فإن كل ما ينص عليه، المرجعُ الأساسي فيه هو الشرع، فالمرجعية الكبرى لزواجنا هي الثقافة الإسلامية، وبصراحة أكثر من 90 بالمئة من تفسيرات العلماء تتيح التعدّد.
أما المرجعية الاجتماعية، فهي الأخرى تتيح تعدد الزوجات، بل تشجعه أحياناً!
ذكرتُه أنّ كثيراً من النساء تتمنى أن تملك الحرية لتقول للزوج: طلقني قبل أن تتزوج علي!
ما أصعب أن يكون شريكك في السرير إذا استيقظتِ ليلاً من “كابوس ما” لتطلب منه كأساً من الماء هو الكابوس ذاته
كان من الصعب علي متابعة النقاش بعد ذلك، تقول السيدة، حضر شريط من الذكريات عبر “صالة السينما” التي أحضر مقاطع من أحداث عمري من خلالها، حيث أستحضرُ التفاصيل، ها أنا أستعيد ربع قرن من الذكريات الجميلة!
لم أكن أتخيلُ يوماً أن هذا الذي عددتُه، منذ لحظة اتفاقنا على الزواج، مصدر أماني وطمأنينتي، ما هو إلا قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في كل لحظة!
ما أصعب أن يكون شريككِ في السرير إذا استيقظتِ ليلاً من “كابوس ما” لتطلب منه كأساً من الماء هو الكابوس ذاته، الفرق بينه وبين القنبلة الموقوتة، أنَّ القنبلة إنْ اقتربتِ من صاعقها يمكن أن تنفجر فحسب، وهذا الذي أتبادل معه السرير قد يهدم كل شيء دون سابق إنذار!
***
تقتضي المهمة التي كلفني بها مكتب اللاجئين الاستماع إلى الطرف الآخر، بصفتي طرفاً محايداً يسعى للإصلاح، قبل أن أقدم لهم وجهة نظري عن مدى إمكانية استمرار الزواج أو عدمها.
بعد أن استمع الرجل إلى وجهة نظر الطرف الآخر فيه ومآلات العلاقة معه، بدا كأنه يعد إلى العشرة، ويختار كلماته جيداً قبل أن يقول التالي:
“من الصعب أن نرى الأمور بالعيون ذاتها التي قدمها الطرف الآخر لك، ما قدَّمه وجهة نظر، قد تكون صحيحة أو خاطئة، عقدي الأخير معها هو نوع من أن يكون في بيتك شخص يحمل خنجراً مسمومة، عليكَ أن تضمن له كل الظروف المناخية الموضوعية كي لا تجرح جسدك أو تسمم أهل البيت، تريد أن تخفف من آثار تلك الخنجر، أو أذاها، وهو قادم لا محالة، لكنك تستعمل كل الكمامات لكي تخفف من أثره لعلك تنجو!
كنتُ قد تزوجتُ أنثى تحبُّني وأحبُّها، وإذ بها تتحول إلى “قضية”، إلى “كتاب تاريخ” يحمل مظالم النساء عبر العصور، وكلما عبرتُ ساقية معها على أمل الوصول إلى شاطئ تفاهم، إذ بها ترديني بساقيةِ مظلوميةٍ نسويةٍ جديدةٍ، تستعملُ كل طرائقكَ في السباحة للاستمرار في مركبة العائلة معها، لكنها من حيث تدري أو لا تدري تغرقُك في أوحال مظلوميات جديدة. تريد أن تبني معها جسراً نحو المستقبل كي لا تغرق تلك المركبة، لكنها مستعدة أن تحوِّل كل لحظة سعادة إلى “لحظة حقوقية”. تريد أن تغيّر عالم الرجال كله لكي يتناسب مع قناعاتها الجديدة، أو عنصريتها وتطرفها، تريد العالم أن يغدو نسخة واحدة، النسخة المثالية التي تراها هي، نسخة: الرجال الظالمين والنساء المظلومات!
تلك امرأة أخرى غير التي مال قلبي إليها يوماً، اليوم هي ليست امرأة بقدر كونها “قضية نضال” وابنة وفية لإيديولوجيا النسويات المتطرفات لنسويتهن.
كنا في بلادنا الأصلية نعتمد على خيط ضامن للعلاقة فيه مودة ورحمة وتآلف وتجاوز عن التفاصيل، نتكبُّرِ على الواقع أحياناً، أو نسير للأمام ونعزز الإيجابي بيننا، لكي تستمر حياتنا.
تريدني تلك الزوجة، التي غدت كائناً آخر بعد اللجوء، نسخة طبق الأصل عنها، أفرح متى ما فرحت، وأحزن متى ما حزنت، وحزنها وفرحها لا يعلم أسبابه أحدٌ، لأنه لا يأتي من أسباب موضوعية نعيشها معاً، بل يأتي من مقدار شعورها ومشاعرها وحدها التي ترتفع إلى أعلى درجة غالباً في لحظة انتصار أفكارها، تريد أن تكون منتصرة دائماً لتعوض خسائر النساء كما تقول في أحد النقاشات!
مؤلمٌ أن تعيش مع امرأة تعتقد أن حدسها هو يقين العالم وحقيقته، وأنها وحدها من يحدِّد صحيح العالم من خطئه!
الأهم أنك تعيش مع امرأة أدمنتْ القراءة الخاطئة، تقرأ كل من حولها بطريقتها هي وحدها، لذلك تثق بقراءاتها التي لا تقبل الجدل، وهذا أوجد عندها ثقة بما تعتقد لا حدود لها، وتقديراً لذاتها أعلى مما هو واقع، لا تملّ من مظلوميات الثقة بالذات واليقين بها وتسفيه عالم الرجال الخونة “الكريهين”.
غدت حياتي معها حالة من الرعب، لم أعد أعرف ما يسعدها أو يزعجها، لأن قراءتها وردة فعلها لا توجد لها أسس ثابتة حتى تستطيع أن تتعامل معها؛ فهي وليدة حدسها ومظلوميتها وحدها! ولأنه حدس وتوقع وشعور فإنك “لا تحزر” متى تقع في عراك معها…
***
قاطعته، بأنني لا أهتم في هذا السياق بالأرضية الفكرية أو بمكوناتها، وأسبابها، أو مكونات شخصيتها أو تحليله لشخصيتها..
أنا معنيٌّ في هذا السياق بموضوع محدد، ومطلوبٌ مني، بناء على تكليف مكتب رعاية اللاجئين، أن أرسل لهم وجهة نظري في موضوع العلاقة بينكما. وكي أختصر الحديث معه سألته مباشرة: هل من إمكانية للاستمرار أم أن الطلاق هو الحل الأمثل؟
قبل أن يجيبني الزوج خرجتْ زوجته من الغرفة الأخرى، وهي تسأله عاتبة: أنا خنجر مسمومة يا من كنتَ حبيبها؟ ردّ عليها: أنا قنبلة موقوتة يا من كنتِ حبيبته؟
هيَّأتُ نفسي لفكّ شجار كبير بينهما، غيرَ أنهما فجأة، نظرا في عيني بعضهما نظرة عتاب وشوق وألم ولجوء، وأخذا يبكيان بشدّة!
بكيتُ أنا الآخر، بكيت أكثر مما بكيا معاً، واعتذرتُ عن إتمام المهمة لا لشيء، بل لأن إتمام المهمة بين “الرجل القنبلة” و”المرأة الخنجر” بدا أقرب إلى الجنون منه إلى العقل، ربما بكيتُ على نفسي، على مآلاتنا نحن السوريين. أحجار الحائط، التي كانت أمامي، كذلك كانت تبكي!
أحمد جاسم الحسين _ تلفزيون سوريا