قمة الـ”أون لاين” بين زعماء ضامني “أستانة” (الرؤساء رجب طيب أردوغان وفلاديمير بوتين وحسن روحاني) هي قمة تأتي في إطار محاولات التقاط رأس خيط حل الصراع السوري، الذي لا يزال موضع تجاذب وتنابذ بين الدول المنخرطة بهذا الصراع.
القمة الافتراضية هذه، تريد البحث عن مربع تلتقي فيه الدول الثلاث الضامنة، وهو مربع يمكن أن نطلق عليه مربع الحد الممكن للتفاهم بينهم، فمقدمات كل ضامن من الضامنين الثلاثة حيال حل الصراع تختلف من دولة إلى أخرى، ولكن هذا المربع ليس مربعًا تجريديًا متخيلًا، بل هو مربع قد تعترض عليه قوى دولية وفي مقدمتها الولايات المتحدة وأوربا.
لقد بدا بوتين متفائلًا إلى درجة غير مقنعة، إذ قال في جلسات القمة المذكورة: “بإمكان ثلاثيتنا أن تفعل كثيرًا في سبيل إعادة إعمار سوريا ما بعد النزاع، واستعادة اقتصادها والقطاع الاجتماعي وعودة اللاجئين والنازحين”.
ولم يقل لنا بوتين كيف ستتم عملية إعادة الإعمار في ظل حزم أمريكي، تمثّل بقانون “قيصر”، الذي يمنع أي خطوة بهذا الاتجاه، لا بل يمنع ويعاقب كل من يحاول مساعدة النظام السوري اقتصاديًا.
المشكلة أن بوتين يدرك أن ما يحاوله بهذه الاتجاه لن يحدث، ولكن ثمة رسالة بين طيات كلامه، وهذه الرسالة ينبغي أن يعبّر عنها بوتين بصورة أوضح، لتكتسب مصداقية مقبولة لدى الغرب والولايات المتحدة.
فالروس لم يساندوا جديًا مفاوضات “جنيف”، بل كانوا يريدون استبدال ما يعتقده بوتين أنه اتفاقات “أستانة” و”سوتشي” بمحتوى القرار الدولي 2254، وهذا الموقف الروسي هو ما ترك انطباعًا وحذرًا غربيًا وإقليميًا حيال مخرجات “أستانة” و”سوتشي”.
القمة الافتراضية بين الدول الضامنة لـ”خفض التصعيد والتوتر” لن تستطيع تغيير أثر قانون “قيصر” على وضع النظام السوري، فأي دولة من هذه الدول تدرك تمامًا أن القانون الأمريكي سيطال بالعقوبات القاسية من يحاول الالتفاف عليه، سواء كانت دولًا أم شركات أم أفرادًا.
ولهذا فإن بوتين الذي قال في هذه القمة: “إن فرض عقوبات على سوريا لن يجدي نفعًا، بل إنه يزيد الضغط على الشعب السوري ويقوّض اقتصاد البلاد”، كان لا يقول الحقيقة، بل يعمل على تصويرها بصورة غير واقعية، فالاقتصاد السوري دمره النظام بفعل حربه الرعناء الوحشية ضد الشعب السوري، وعقوبات قانون “قيصر” غايتها إرغام نظام الأسد على الذهاب إلى مفاوضات “جنيف” تحت مظلة القرار الدولي 2254، وإطلاق سراح المعتقلين والسماح بعمليات تفتيش السجون والمعتقلات، وغير ذلك مما ورد في مطالب قانون “قيصر”.
شروط قانون “قيصر” رفضها الروس، لأنهم سيظهرون بموجبها داعمين لنظام الأسد المتهم بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية.
ولكن، هل رفض الروس كافٍ لتجاوز مفاعيل قانون “قيصر”؟ وهل عودتهم إلى القول إن “الأهداف المطروحة في منطقة خفض التصعيد الرابعة بإدلب لم يتم تحقيقها كلها” هي ضغط جديد على الأتراك؟
يبدو أن الروس لا يزالون يراهنون على نصف حل في سوريا، ونصف الحل هذا قد يحتاج إلى سيناريو خاص به، مهمته التضحية بجزء من النظام وتعويم جزء آخر.
التضحية بنصف النظام لا قيمة لها إذا لم تطل رأسه، وكل الخطوات والإجراءات الترقيعية، التي يتبعها هذا النظام، تكشف عن عجزه البنيوي عن تغيير نفسه، فلا تزال عقليته الأمنية الوحشية هي المسيطرة على بنيته.
إذًا، الروس حتى اللحظة لا يريدون إنفاذ القرار 2254، الذي وقّعوا عليه في نهاية عام 2015، فهم يعرفون أن تنفيذ هذا القرار لا يمكن أن يمنحهم قوة قانونية تسمح لهم بفرض مصالحهم في سوريا، وفق ما قدمه الأسد من تنازلات لهم، شملت قطاعات البلاد الاقتصادية السيادية.
كذلك الأمر بالنسبة للنظام السوري، فهذا النظام يعرف أن تنفيذ القرار الدولي المذكور سيطيح بوجوده إلى الأبد، ولذلك يماطل ويعرقل ويسوّف لعل الظروف تتغير لمصلحته ذات يوم.
إن البيان الثلاثي للقمة الافتراضية حمل عبارات فضفاضة لا دلالة سياسية مباشرة لها، حيث جاء فيه: “تفعيل المساعي المشتركة الرامية إلى تسوية الأزمة في سوريا”.
فما هذه المساعي التي ذكرها البيان؟ وكيف تقود إلى “تسوية” ويتم إغفال مفردة “حل سياسي”.
التسوية تعني في مضمونها تقديم تنازلات من هنا ومن هناك، وهذا يعني الخروج عن النص الأممي القائل بضرورة الانتقال السياسي الصريح، وتشكيل هيئة حكم انتقالية، وغير ذلك مما ورد في القرار المذكور.
لكن البيان المشترك تقاطع مع مطالب تركية تصرّ عليها، حيث جاء فيه “التزام الدول الثلاث بوحدة واستقلال وسيادة الأراضي السورية، ورفض أي محاولات لفرض وقائع جديدة”، بما في ذلك رفض مبادرات غير قانونية بشأن إعلان الحكم الذاتي.
إذًا نستطيع القول، إن القمة الافتراضية أرادت إرسال رسالة تعلن الاستعداد لخلق تقاطعات بين مساري “أستانة” و”جنيف”، ولكن لا تزال هناك حلقة مفقودة في هذا الاتجاه، هذه الحلقة تتعلق بقضايا ذات قيمة كبرى بالصراع في سوريا وعليها، من هذه القضايا الوجود الإيراني في سوريا، ومصير نظام الأسد، وشكل نظام الحكم القادم في البلاد.
فهل تمت مناقشة هذه القضايا في القمة الثلاثية، أم لا يزال الروس يشتقون سياساتهم من رغباتهم بفرض وقائع على الأرض؟
يبدو أن الموقف الروسي النهائي من الحل السياسي للصراع السوري لم ينضج بعد، فلا تزال هناك حلقة مفقودة في هذا الحل، تحتاج إلى إجابات شافية وصريحة، ويمكن القول أيضًا، إن الروس لا يزالون يبحثون عن الصيغة الأنسب لهم فيها، وهذه الصيغة تصطدم بالضرورة بمصالح أطراف فاعلة في ملف الصراع السوري، وفي مقدمة هذه الأطراف تركيا، التي حشدت قوات كبيرة بأسلحة متطورة في إدلب، الغاية منها منع كل تغيير يمكن أن يسيء لأمنها القومي من أي جهة كانت.
إذًا، القمة الثلاثية هي قمة استكشاف نوايا، ومنع تصادم محتمل بين الضامنين، بانتظار تبلور سيناريو تغيير نظام الأسد.
الكاتب:أسامة آغي/ عنب بلدي