بعد تحول القضايا الكبرى للثورة السورية إلى شؤون دولية وإقليمية، لم تعد خاضعة لإرادة السوريين على جانبي الصراع الدائر منذ نيف وعشرة أعوام، تبدّلت أهمية (وأدوار) مسائلها التي يتصدّون لها، وتحوّلت من مسائل كانت لها أولوية في خططهما، إلى قضايا تخلي مكانها لغيرها من المسائل التي كانت تعتبر أقل أهمية منها، بل ومرتبطةً بها وستحسم من خلالها.
كي لا أطيل، أبادر إلى القول إن إسقاط النظام كان أولويةً أخضعت لها جميع مهام العمل العام الثوري، إلا أن تحقيق هذا الهدف خرج من أيدي طرفي الصراع السوريين، وحل محله هدفٌ لا يقل اليوم أهمية عنه، هو إنقاذ الشعب السوري أينما كان، بالنظر إلى الحال الكارثي التي آل إليها، وتجعل لإنقاذه أولوية مطلقة، ما دام مسار الثورة قد غيّر أوضاعها بصورة جعلت انتصارها رهناً بإرادات خارجية لا ترى فيه أولويتها، بينما تتراجع قدرة السوريين على إنزال هزيمة قريبة ونهائية بالأسدية وروسيا وإيران، لأسباب منها وضعهم الراهن.
لم يعد ممكناً تجاهل حدوث التحول الخطير الذي يجعل إيلاء الأولوية لوضع شعبنا مهمة إنقاذية عاجلة، تخرجه من الكوارث التي مزّقته، وأودت بحياة الملايين منه، وبمقومات وجوده المادي، بعد أن اقتلعته الأسدية وداعموها من جذوره، وأخرجته من بيئته التاريخية التي عاش فيها طيلة مئات، إن لم يكن آلاف، السنوات. وها هو اليوم مشتّتٌ بين الدول والقارات، يعيش، منذ أعوام كثيرة، في خيام لا تردّ عنه البرد أو تقيه الحر، بينما حرم مئات آلاف من أطفاله من الدراسة، والطبابة، والرعاية الأسرية المنظمة، وتجاهل المجتمع الدولي مأساته المرعبة، التي أسهمت بعض أطرافه فيها، فلا عجب أن تعمدت تعطيل مؤسسات النظام الدولي الشرعية، واستخدمتها أدوات مساعدة في ارتكاب جرائمها. لذلك، ليس من المبالغة القول إن الشعب السوري صار مهدّداً في وجوده، سيما وأن هدف المجرمين كان تقويض قدرته على مواصلة ثورته وإحباط انتصارها، فضلاً عن جني بعض ثمارها التي أصبح طعهما مرّاً إلى درجةٍ تجعل من الصعب تذوقها، إن بقي هناك من قد يكون راغباً في ذلك! بقول أوضح: لن تستمر الثورة أو تنتصر إلا بقدر ما تعمل لإنقاذ الشعب السوري من محنته، وتلتزم برعايته في كل ما يتصل باحترام مساواة وكرامة وحرية بناته وأبنائه، أقله في مناطق سيطرة الفصائل، حيث تنتهك يومياً على نطاق واسع، على الرغم من أنه كان قد نزل بالملايين إلى الشوارع، وقدّم أغلى التضحيات من أجل تحقيقها، وها هو يجد نفسه خاضعاً لأسديةٍ منحطةٍ تذيقه الأمرّين، ولا تلتزم حتى بحقه في الحياة الذي ثار لانتزاعه من الأسد، وفقده هنا، فهو كمن انتقل من تحت الدلف إلى تحت المزراب، كما يقول اللسان الشعبي عن حالاتٍ كهذه.
إذا كان الشعب هو حامل الثورة وحاضنتها، وكانت هذا حاله، هل يمكن أن نتحدّث بعد عن ثورة حرية، من دون تحصينه ضد الجرائم التي ترتكب ضده، كل يوم وساعة؟ ثم، عن أي ثورة حرية نتحدّث، إن كان لا هم للسوري غير الجري وراء رغيفٍ يعجز أكثر فأكثر عن اللحاق به، بينما يسحق روحه منظر أطفاله وهم ينتظرونه وقد فغروا أفواههم، علّه يأتيهم بلقمة تسدّ رمقهم، وتردّ عنهم غائلة الجوع المستشري.
بعد ثورة الحرية، قرّرت الأسدية تدمير حاملها: المجتمع السوري، لإدراكها أن إسقاطها يغدو ضرباً من الاستحالة، إذا ما مزّقت كيانه الموحد بسلاحي الحرب والإذلال. تُرى، أما حان الوقت لوقف انهيار شعبنا السوري، ولإنقاذه، بعد أن بلغ حافة هاوية الهلاك، وسقطت ملايينه فيها، وتكاد الثورة تصبح كلمة جوفاء بالنسبة له هنا، ومثلها كلمة الانتصار بالنسبة لأسرى السجن الأسدي هناك؟
ميشيل كيلو _ العربي الجديد