كانت انتخابات عام 1953 مهمة في تاريخ سورية، لأنها وحدت المعارضة ضد العقيد أديب الشيشكلي، وساهمت في تسارع الأحداث التي أدت إلى إسقاط حكمه بعدها بأشهر معدودة. ولهذه الانتخابات أهمية إضافية لأنها الأولى منذ جلاء الفرنسيين الذي تشاركت فيه أحزاب سوريا التقليدية، والتي كانت قد حُظرت بقرار منذ عام 1951. غاب عنها كلٌّ من الحزب الوطني في دمشق وحزب الشعب في حلب، ولم يُشارك إلا الحزب السوري القومي الاجتماعي، المتحالف مع الشيشكلي، وحركة التحرير العربي التي كان الشيشكلي قد أوجدها في صيف العام 1952. ولكن أهم ما جاء في هذه الانتخابات هو مشاركة النساء اقتراعاً وترشيحاً، للمرة الأولى في تاريخ سوريا الحديث.
جدل لغوي في مجلس النواب
كان الدستور المؤقت الذي وضعه مهندس الانقلاب الأول حسني الزعيم عام 1949 قد أقرّ بحق الانتخاب للمرأة السورية، ولكن موضوع ترشحها للمجلس النيابي بقي عالقاً حتى عام 1950. وقد جاء في مسودة الدستور الجديد عام 1950 بأن “الناخبين والناخبات هم السوريون والسوريات،” أمّا عن حق الترشح فقد ظلّ النص ذكورياً حيث جاء فيه: “لكل سوري أن يُرشح نفسه للنيابة إذا توافرت فيه الشروط.”. وتساءل النواب يومها إذ كانت عبارة “كلّ سوري” تنطبق على الإناث أم أنها محصورة بالرجال فقط؟
وقد أثار هذا الأمر نقاشاً لغوياً فريداً داخل المجلس النيابي، أطلقه نائب حمص رئيف الملقي، خريج كلية الحقوق في جامعة دمشق، حينما قال: “إن كلمة سوري في لغة تطلق على الذكور والإناث”، وأيده نائب القطيفة في ريف دمشق، المحامي محمد الجيرودي، بالقول إن جمع المُذكر السالم في الأحكام والتشريع يُطلق على الذكور والإناث، وأن قِبلة المشرع هي في المادة التي تقول: “الناخبون والناخبات هم السوريون”، فكلمة “السوريون” كما شملت الناخبين، شملت الناخبات.
لم يمانع النائب حسين الشوفي إعطاء المرأة حقَّ الانتخاب، ولكن شرط ألا تعطى حق الترشّح للنيابة. أيده النائب نجدت النجاري مقترحاً أن يكون حقُّ الانتخاب محصوراً بمن لا يتجاوز عمرهن الأربعين من السيدات، قائلاً إن “سن اليأس” قد يؤثر على “عقلانية المرأة”
رد عليهما الشيخ مصطفى السباعي، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في سورية، قائلاً إن هذا الأمر مخالف لقواعد اللغة، فجمع المُذكر السالم هو بخلاف جمع المؤنث السالم وله شروط أخرى، منها أن يكون مفرده مذكر.
الحجج العقائدية والاجتماعية والسياسية
أضاف نائب صلخد في جبل العرب، حسين الشوفي، أنه لا يُمانع إعطاء المرأة حقَّ الانتخاب، ولكن شرط ألا تعطى حق الترشّح للنيابة. أيده نائب جسر الشغور نجدت النجاري، وهو تاجر ومزارع، مقترحاً أن يكون حق الانتخاب محصوراً بمن لا يتجاوز عمرهن الأربعين من السيدات، قائلاً إن “سن اليأس” قد يؤثر على “عقلانية المرأة” وخياراتها الانتخابية. وقف نائب شهبا جاد الله عز الدين معارضاً كلام زملائه وتساءل: “هل هناك فرق شاسع بين سيدة تطمح بأن تدخل هذا المجلس وبيننا نحن؟ وطالما نحن نتغنى بالمساواة في هذا الدستور، فلماذا نريد أن نحرم قسماً من السوريين هذا الحق؟”.
هنا طلب نائب حمص إحسان الحصني الكلامَ، وأثنى على رأي زميله، مضيفاً: “نرفض الحجة التي تفضل بها بعض الزملاء، بوجوب انتظار التطور الاجتماعي ورفع مستوى المرأة، فهي حجة واهية، إذ أن مستوى النساء في بلادنا لا يختلف كثيراً عن مستوى الرجال، فبينهن المثقفات الراقيات، وبينهن مَن ثقافتهن وسط، وبينهن الأمّيات غير المتعلمات، فدرجة التطور التي يجب أن تصل إليها المرأة قد وصلت إليها فعلاً، ولا يجوز بحال من الأحوال أن تترك بعيدة عن القضايا العامة، فالمرأة فرد من الشعب السوري كالرجل تماماً، ولها مطالب وواجبات يجب أن تدافع عنها”. ثم أشار النائب الحصني إلى بيعة الرسول قائلاً: “عندما ورد عليه القرشيون ليبايعوه، طلب أن تأتيه القريشيات أيضاً، فالمرأة ينبغي أن تشترك في إدارة بلادها”.
وقد تدخل نائب إدلب محمد العاشوري لصالح المرأة قائلاً إنه: “ليس من الخير لهذا الوطن أن يبقى نصفه أشلّ”، وأيده بذلك نائب دير الزور جلال السيّد، وهو من قادة حزب البعث. وكان القول الفصل يومها لمصطفى السباعي، الذي تكلم بعد صمت طويل قائلاً إن في إعطاء المرأة حق الترشح مانعيْن؛ أولهما ديني وثانيهما اجتماعي. المانع الاجتماعي يعود إلى عدم تقبل الناس لهذا الأمر، أما عن العائق الديني، فقد قال السباعي:
الإسلام لا يميز عليها الرجل في الحقوق التي تتعلق بالعقيدة والعبادة والتجارة والمكانة الاجتماعية، ولكن الحقوق التي تتعلق بإدارة شؤون المجتمع، فقد ميّز الرجل عن المرأة، ليس انتقاصاً للمرأة، ولكن وضعية الرجل في الحياة وعقليته أقدر على القيام بهذه الشؤون من المرأة، كما فعل الإسلام بالشهادة، إذ جعل شهادة الامرأتين تعادل شهادة الرجل الواحد، وقد نص القرآن على ذلك.
ثم تتطرق إلى ما جاء على لسان زميله عن مبايعة القرشيات للرسول، قائلاً: “أرجوا ألا يؤول هذا على أنه حق للترشح، فالمبايعة ليست إلا تأكيداً لقائد الدولة وقائد الأمة، على أنهن، أي النساء، يُنفذن أحكام الإسلام، وهذا يعطينا الدليل على أن للمرأة حقَّ أن تنتخب، لا أن تُنتخب”.
وانتهى الأمر بإعطاء المرأة حق الانتخاب وحق الترشح، مع وقف التنفيذ إلى حين إقرار قانون انتخاب لاحق، الذي وضع في زمن الشيشكلي عام 1953.
ثلاث سيدات
جميع المصادر التاريخية ومن دون استثناء تشير إلى مشاركة المدرّسة ثريا الحافظ في هذه الانتخابات، ولكننا لو عدنا إلى سجلات تلك المرحلة، نجد أن ثلاث سيدات شاركن بها، وليس الحافظ وحدها. كانت ثريا الحافظ أشهر المرشحات وأكثرهم نشاطاً في المجتمع، منذ أن ترأست المظاهرات المطالبة بالسفور عام 1943. كما كان لها صالون أدبي في منزلها، يدعى “منتدى سكينة”، إضافة لمقال أسبوعي في جريدة “بردى” التي كان يصدرها زوجها الصحفي الشهير منير الريّس.
أما عن المرشحة الثانية، فكان اسمها عدوية الطبّاخ (33 عاماً)، خريجة الجامعة الأميركية في بيروت، وكانت إحدى مؤسسات جمعية “دوحة الأدب” مع رئيسة الاتحاد النسائي عادلة بيهم الجزائري. السيدتان الطبّاخ والحافظ كانتا من عائلات دمشقية معروفة، أمّا المرشحة الثالثة فكان اسمها شهرزاد صوفان، بنت بلدة يبرود في ريف دمشق.
جميعهن سقطن في تلك الانتخابات، بسبب معارضة جمهور عريض من المحافظين والتقليديين، الذين جيشوا مناصريهم في عدم التصويت للسيدات الثلاث. وبقيت عضوية المرأة معلقة حتى قيام الوحدة مع مصر عام 1958، عندما فرض الرئيس جمال عبد الناصر حصة للنساء في مجلس الأمة المشترك، ودخلت عدة سيدات سوريات إلى السلطة التشريعية، للمرة الأولى منذ انتهاء الحكم العثماني عام 1918.
لم يثن الفشل السيدات الثلاث من الاستمرار في نشاطهن، فقد بقيت شهرزاد صوفان تعمل في التدريس، والحافظ والطباخ في كتابة المقالات الداعمة للحركة النسائية، الأولى في جريدة “بردى”، والثانية في مجلّة الشرطة والأمن العام ومجلّة المضحك المبكي التي كان يملكها الصحفي حبيب كحّالة.
سامي مروان مبيض _ رصيف22