ليس من المبالغة بشيء أن أطلبَ التدقيق ملياً في هاتين الحادثتين، اللتين ضجت بهما مواقع التواصل الاجتماعي مؤخراً، وقد حدثتا في بلد يقوم أساساً على جُملةٍ من التظلمات السياسية والاجتماعية التي عزّزها إرث ثقيل من العنف والقمع: (ألقت الأجهزة الأمنية التابعة للنظام السوري، القبض على عبدو الأسعد، مدير التشغيل السابق في محطة “الزارة” الكهربائية بريف حماة الجنوبي، ولم تكن جريمته قتلاً ولا اعتداء، ولا انضماماً لتنظيم إرهابي أو تحريضاً على العنف، أو مثلاً محاولة انقلاب على نظام الحكم، وإنما وهن نفسية الأمة… أكد المحامي العام الأول بدمشق في سياق قضية الشابة آيات الرفاعي، التي توفيت بعد تعرضها لضرب مبرح من جانب زوجها وعائلته، أنه “عندما تثبت التحقيقات أنّ سبب الوفاة هو التعنيف، فإن فاعل الجريمة، والمساعد فيها، والمتستر عليها سوف ينالون عقابهم العادل ولا أحد فوق القانون…).
هذا التدقيق يدفعنا في اتجاه مغاير لما قد يجول في الخاطر، إذ لن نتناول بالطبع أسباب التعنيف الأسري ولا ملفات اعتقال كلّ سوري شريف يتوهج نقده تحت رماد الفساد. بل سنتناول سؤالاً جوهرياً كليّ الحضور في الحياة السورية اليومية وهو: أيّ دولة هذه التي يتحدث عنها مسؤولون لم تتوقف ألسنتهم الطويلة لحظة واحدة عن صناعة الأوهام، بينما يزعمون بوجود “دولةٍ” تتخذ القانون سلطةً عليا، ويتبجحون بوجود “أمة” تُوهن نفسيتها؟. أيّ هراء هذا!.. وسوريا اليوم تحولت بكليتها إلى كيانٍ بوليسي فاشيّ، يُقتل فيه الأبرياء ويُعتقل الشرفاء ببساطة من يغيّر الماء في إناء زهور. كيان غدا اللاعب الخفي الذي يقوم بإدارة الدولة من وراء الستار، فاقداً للقيم والمبادئ في ظلّ انعدام تقريبي لأبسط الحقوق، بدءاً من التيار الكهربائي الذي يأتي ضيفاً ثقيلاً على البيوت، إلى اختفاء مصادر الطاقة، وحتى الوقوف في طوابير مذلة لتأمين القوت اليومي. كيان فقدَ أيّ تمثيل وطني جامع، وأحلت محله إرادة عصابة مركزية عليا، تفرعت إلى عصابات انتهازية دنيا، جسّد وجودها حجم ونمط اختراق العصابة العليا للمجتمع، ومدى تحكّمها بمقدراته.
تحولت تدريجياً من دولة مستقلة ناشئة إلى دولة تسلطية، بعدما عمل نظام الأسد على تحويل المجتمع السوري إلى سديم بشري مفكك ومهلهل
وسوريا التي قامت على زعاق الشعارات القومية البرّاقة متجاوزة المآلات المدمرة للكيانات الوطنية، تحولت تدريجياً من دولة مستقلة ناشئة إلى دولة تسلطية، بعدما عمل نظام الأسد على تحويل المجتمع السوري إلى سديم بشري مفكك ومهلهل، ومواطنيها إلى أفراد منعزلين لا مبالين محاصرين بالخوف والشكّ والنزعة الذاتية. على هذا جرى، وبطريقة ممهنجة، تخفيض مفهوم المواطنة إلى مستوى الولاء الحزبي أو الشخصي، ومفهوم الشعب إلى مستوى الرعية التي ينحصر دورها في التطبيل والتزمير. وفي “دولة اللادولة” يذهب مراقبون إلى التسليم بأن أفظع مصير يمكن مواجهته في العالم الراهن، هو مصير سوري لا وطن له.
وفي الحقيقة إنّ غياب مفهوم الوطن اليوم يعني أن السوري عانى منذ البداية من نقصٍ جوهري في كينونته الخاصة، باعتباره الجهة الحاملة للدولة والمجسّدة لشرعيتها، ومن تشوّه في الوطنية التي تجعل من مؤسسات الدولة تعبيراً قانونياً جلياً عن واقعٍ، الشعب فيه يكون مصدر السلطات والسيادة. وبالتمزق والفراغ من جهة، وبالامتلاء المخابراتي الرسمي والإرهابي من جهةٍ مقابلة، يصير ضرورة البدء في بناء الدولة الوطنية السورية اليوم حتمياً لإخراج البلاد من مأزقٍ عصيب، ينحدر بها إلى مهاوٍ تفتيتية تطيح فرص إعادة إنتاج الدولة مجدداً، في حين ينمو الخراب، بالتكامل مع السرطان الأسدي الذي يقوم على مبدأ تكفير كلّ من يعارضه. ولن تكون آخر فنونه بالطبع قانون الجرائم الإلكترونية لإلغاء أية حقوق أو مشتركات وقيم وطنية أو إنسانية.
ومع دخول النزاع السوري عامه الحادي عشر، يدور سؤال ملحّ بشأن مستقبل الدولة السورية، ولعله من المفيد، وفي محاولة للتكهن بملامح هذا المستقبل الغامض الذي سيخرج من أتون الحرب الهائلة، والاعتراف بأنه ورغم مرور أكثر من قرن على انفصال سوريا عن جسم الدولة العثمانية، فإن الدولة السورية لم تتمكن من تطوير مقاربات لنماذج حكم قادرة على استيعاب التنوع، والتعددية الموجودة ضمن نطاق جغرافيتها، كما أنها أخفقت في خلق هوية سورية جامعة تشكل حضناً دافئاً للتجمعات المحلية المختلفة.
هذا الأمر أنتج تناقضات اجتماعية عميقة خلقت حالات استقطاب شديدة داخل هذه المجتمعات، وأعاقت نموها وتطورها الطبيعي، وأسهمت بشكل كبير في خلق الدكتاتوريات. لذا من الطبيعي أن تُسجَّل الحرب السورية العدمية على أنها من أفظع الحروب التي شهدتها البشرية، إنْ لجهة الانتهاكات التي ارتُكبت ضد المدنيين، أو لجهة حجم التدخلات الأجنبية فيها وخُبث دوافعها، وسط صمت عالمي يُظهر رياء وهُزالاً غير مسبوقين وصل إليهما المجتمع الدولي. ويبدو الانطباع العام أن بشار الأسد قد انتصر مع إصرار روسيا وإيران على تعويمه لتثبيت نفوذهما في المنطقة، ومحاولات بعض العرب احتضانه يأساً من معارضة سورية جديّة تشكّل بديلاً لنظامه، أيضاً لفشل العقوبات الدولية التي أفقرت الشعب من دون أن تصيب النظام. والحقيقة المرّة أنه ستستمرّ سوريا تحت وصايات أجنبية، لرجحان استمرار الوجود العسكري الروسي والإيراني والتركي والأميركي في المستقبل القريب، مع اختلاف في الأحجام والأدوار ومقاربة كلّ منها للتسوية فيها.
لِنعُدْ بالزمن قليلاً إلى الوراء، ونتذكر الاعتداء على عائلة الموسيقار السوري الأميركي مالك الجندلي، وتهشيم أصابع رسام الكاريكاتير علي فرزات، واقتلاع عيون المصور فرزات يحيى جَربان، وقتل السينمائي الشاب باسل شحادة بقذيفة دبابة، والتصفية الجسدية للروائي إبراهيم خريط، ورامي السيد، وبراء البوشي ممن قضوا اغتيالاً، ونهاية الفنان التشكيلي وائل قسطون في السجون تحت التعذيب، وأيضاً إبراهيم قاشوش الذي قطع الشبيحة عنقه على خلفية غنائه أغنية “يلا ارحل يا بشار”، كذلك الاعتقال التعسفي لرئيس “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير” مازن درويش وزملائه المعتقلين حسين غرير، وهاني زيتاتي، ومنصور حميد، وعبد الرحمن الحمادة. …إلخ.
نظام يتسيد أمة توهن نفسيتها الأغنيات، وتربكها السينما، ويُقلق راحتها صوت المسرح والقصائد
أستذكر هذه الحوادث لا لفضح عِظَمِ العالم السفلي القائم على الجريمة الممنهجة الذي يعيش فيه السوريون، إنما للتأكيد أنّ ما يدفع كياناً فاشياً لارتكاب كلّ هذا القبح والعنف، حقيقة جلية وهي أنّ الخوف قد غيّر من وجهته حقاً، وانتقل من طرف الشعب إلى طرف النظام السوري الذي نادى بالاشتراكية فجلب الجوع والفقر. ووعد بتحرير فلسطين فباع بلاده وأتى بالذل والهوان. وتغنى بالحرية والعدالة فشيد السجون والمعتقلات. نظام يتسيد أمة توهن نفسيتها الأغنيات، وتربكها السينما، ويُقلق راحتها صوت المسرح والقصائد، وعليه فإن التحدي الرئيسي الذي يواجه السوري اليوم هو الإيمان أنّ الطغاة يُصنعون لا يُولدون، وأنه تحت هذا القناع المخيف يتوارى وجه طاغية يغضّنه العجز، وتشوه ملامحه
مشاعر الخوف، بينما لم ينفك منذ عقود يربي السوريين على مبدأ “المجنّدين المدجنين”، كي تسهل إدارتهم والتنبؤ بسلوكياتهم. وما بعد هذا التسليم لا بدّ أن السوري سيخطو باتجاه بناء منظومة حكم تستند إلى ثقافة المجتمع وتتناغم مع تقاليده، تحول دون استمرار تفكك الدولة السورية إلى “كانتونات” متناحرة ومتنافسة، كانت وما زالت السبب الأساس في هذه المحرقة التي يبدو أنها لن تتوقف قريباً.