لم يُؤذِ الثورةَ في سوريا شيء كما آذتها فوضى القيادة. ولو تسنَّى لأسباب تأخُّر النصر أن تجتمع في مناظرة، لاحتل سبب “فوضى القيادة” المراتب الأُولى.
والحقّ أن إنعام النظر في مآلات الثورة في سوريا سيكشف للمتأمّل أنَّ هذه الفوضى لم تكن مجرَّد سببٍ في مجموعةٍ، بل كانت بيئةً جاذبةً لبقية الأسباب، خصوصاً عندما نتيقَّن بأنها كانت فوضى مقصودةً، حجرا رحاها واحدٌ عند النظام وحلفائه وثانٍ عند جزء معيّن من المعارضة تناسبه الفوضى وتناقضاتها ليبقى المهيمن الأكبر والمستفيد الأوحد. دون أن ننسى إضافة حجرٍ ثالثٍ، طبعاً، عند الدول المؤثّرة التي تنظر إلى بلادنا كجائزة للتقاسم.
فعلى المستوى السياسي، حالت فوضى القيادة دون قيام مجلس قيادي فعَّال، مندمج مع حركة الشعب ومستقلّ عن أجندات الدول، يحرم المتسلّقين والانتهازيين والفاسدين وعملاء الاستخبارات من أيّ فرصةٍ لاختراق الصفوف، ويرفض أن يتحوَّل إلى فندق رخيص لإقامة مصالح الدول والأجندات غير الوطنية، مثلما حصل مع جميع المؤسسات القيادية المعارِضة المتناحرة، والتي شكَّلت عبئاً سياسياً مضافاً على الثورة، بدلاً من أن تكون عنوانها السياسي.
وعللى المستوى العسكري، صنعت فوضى القيادة كلّ أسباب التشرذم التي أفشلت تجربة “الجيش الحرّ”، وساهمت في تشظّيه نحو النموذج الفصائلي الميليشياوي، وفتحت المجال لنشوء الفصائل المتطرّفة التي عادت والتهمته، وائدةً الاستحقاقَ الثوريَّ الكبير بإنشاء جيش محترف يحدّد وجهة البندقية ويمنع انحرافها، نحو الاقتتال الداخلي، أو نحو سوق الارتزاق في دول أُخرى مثلما هو حاصلٌ في الفترة الأخيرة.
وعلى المستوى الإغاثي، والذي لا يقلّ شأناً عن نظيرَيْه السياسي والعسكري بسبب حجم التهجير شبه الشامل والأعداد الهائلة لمن يحتاجون إلى الغوث، خلقت فوضى القيادة مناخاً مثالياً للنهب العام وانعدام المحاسبة، وبالتالي توسَّعت رقعة المأساة بشكل أثَّر تأثيراً كبيراً على خيارات الناس ومعنوياتهم.
وعلى المستوى الإعلامي، جاءت الفوضى في الإعلام الثوري كنتيجة حتمية للفوضى السياسية. وبدلاً من خلق جهاز إعلامي محترف ومتفرّغ لديه غرفة مركزية لإدارة المعركة، تُرِكَ الحبل على غاربه، ليتحوَّل بعض “الإعلام الثوري” إلى دكاكين ومزارع كلّ منها يتبع شخصيةً معيَّنةً أو جهةً معيَّنةً أو دولةً معيَّنةً.
وعلى الصعيد الشعبي، ولَّدتْ فوضى القيادة حالةً من انعدام اليقين الثوري سهَّلت عمليات الاختراق الأيديولوجي في البيئة الحاضنة للثورة، فتضعضعت هذه البيئة فاسحةً المجال لولادة تنظيمات متخلّفة، عابرة للحالة الوطنية وللحالة المدنيَّة معاً، استولت في نهاية المطاف على معظم مناطق الثورة.
وفوق ذلك كلّه، شكَّلت فوضى القيادة مناخاً محموماً للتخوين، وبالتالي تدمير جميع الشخصيات المؤهّلة للاضطلاع بدور كبير في إعادة لمّ شمل الثورة وقطاعاتها ومؤسَّساتها وشخصياتها.
وأمام هذا المشهد لا يمكن لأي وطنيّ نزيه أن يتعامى عن حقيقة أنَّ الذين عمَّموا هذه الفوضى وساعدوا على انتشارها، وحالوا دون تنظيم العمل الثوري، هم ليسوا فقط جهة الأعداء، بل أيضاً بعض الذين يقفون في جهة الثورة، وتحديداً أولئك الذين “قادوا” الثورة من المقاعد الخلفية، وخافوا من صعود أي شخصية قادرة على تشكيل إجماع حولها.
ولا يخفى على أحدٍ أنَّ فريقاً في المعارضة، وعبر جماعاته في الداخل، ساهم في صنع “نهايات غامضة” لبعض الشخصيات التي امتلكت حيثية قيادية وكاريزما وتأهيلاً معيَّناً يسمح لها بتصحيح المسار وقلب المشهد.
الكاتب : ماهر شرف الدين _ “زمان الوصل”