كشف تقرير لرابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا، ومقابلات أجرتها وكالة “فرانس برس” مع معتقلين سابقين، عن وجود “غرفتي ملح” في سجن صيدنايا العسكري تُوضع فيهما الجثث حتى يحين وقت نقلها للمشافي العسكرية ثم للمقابر الجماعية.
وقال عبدو (30 عاماً) لوكالة “فرانس برس”، توجّهت إلى الحمام الخالي من المياه في زاوية الغرفة المعتقل فيها، وبعد خروجي منه تعثرت قدماي بجثة. ويقول “دستُ على شيء بارد، كانت رجل أحدهم”.
وتجمّد عبدو من الخوف بعدما رأى 3 جثث ملقاة على الملح، وقد نُثر عليها المزيد منه، وبدأت رجلاه ترتجفان.
وعبّر عن خوفه حينها بالقول:”ظننت أن هذا سيكون مصيري.. وأنه حان دوري لإعدامي وقتلي. لم أعد أقوى على الحركة، جلست قرب الحائط وبدأت بالبكاء وتلاوة القرآن”.
جثث كالمومياء
روى معتصم عبد الساتر (42 عاماً) تجربة مشابهة في غرفة مختلفة تقع في الجناح نفسه من الطابق الأول من المبنى الأحمر.
ويصف معتصم غرفة، دخلها في 27 من نيسان 2014، بعرض أربعة أمتار وطول خمسة أمتار، ولا يوجد فيها حمام. ومنها، شعر وكأن قلبه سيخرج من صدره من شدة الخفقان بعدما نادى عليه السجان لإطلاق سراحه.
ودّع معتصم رفاقه وسار فرحاً خلف سجّانه، لكنه فوجىء بطلب هذا الأخير منه الدخول إلى غرفة لم يرها سابقاً.
وقال : “غرقت قدمي في مادة خشنة. نظرتُ فإذا به ملح بعمق 20 إلى 30 سنتمتراً”، مشيراً إلى أنه الملح الصخري ذاته الذي اعتاد أن يرى شوالات منه إلى جانب الطرق خلال أيام الشتاء، وتستخدمه السلطات لتذويب الثلج المتراكم في الشوارع.
تذوق معتصم بعض الملح المحروم منه في السجن، لكن سرعان ما وقعت عيناه على أربع أو خمس جثث ملقاة في المكان.
وأضاف: “كانت الجثث تشبه المومياء، وكأنها محنطة.. كانت عبارة عن هيكل عظمي مكسوٍ باللحم يمكن أن يتفكّك في أي لحظة”.
بقي معتصم في الغرفة ثلاث إلى أربع ساعات. ويقول “كان الملح يذوب من تحتي من شدة تصبّب العرق مني”.
الملح ثروة كبيرة
وتحدث معتقلون سابقون، عن غياب الملح عن كميات الطعام القليلة، ما أدى لتأثيرات صحية سلبية، بينها التعب والصداع وغياب التوازن.
وللتعويض عن قلة الملح، روى معتقلون أنهم كانوا يشربون مياهاً يضعون فيها نواة الزيتون المالحة بعض الشيء.
ويتذكر محمّد فارس (34 عاماً) الذي أمضى سبع سنوات في سجون النظام بينها عامان وخمسة أشهر في صيدنايا، كيف عاد صديق له عاد في أحد أيام نيسان 2014 إلى الزنزانة محملاً بالملح في جيوبه. وأوضح له أن الحراس طلبوا منه ومن معتقل آخر وضع جثث في أكياس داخل غرفة مفروشة بالملح.
لم يتوقف فراس وأصدقاؤه كثيراً عند وجود الجثث داخل الغرفة. ويقول عبر الهاتف من ألمانيا: “سعادتنا كانت تكمن في الملح، كان ثروة كبيرة”.
أول غرفة ملح في عام 2013
تعتقد رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا أن أول “غرفة ملح” وُجدت في النصف الثاني من العام 2013، مع اشتداد التعذيب وتردّي الأوضاع في السجن.
وأشار الشريك المؤسس في الرابطة دياب سرية إلى أنهم ” تمكنوا من تحديد غرفتي ملح على الأقل، وكل منهما استخدمت لتجميع جثث الأشخاص الذين قضوا تحت التعذيب أو توفوا جراء الأمراض أو عمليات التجويع”.
وأوضح بأنه كان يتمّ الإبقاء على الجثث بين يومين وخمسة أيام داخل المهاجع إلى جانب المعتقلين كأحد أساليب العقاب، قبل نقلها إلى غرف الملح لـ”تأخير تحلّلها”. ثم تُترك الجثث يومين داخل “غرف الملح” في انتظار تجميعها قبل نقلها إلى مستشفى عسكري لتوثيق الوفاة ثم إلى مقابر جماعية.
ورأى سرية، أن “الهدف من الملح هو حفظ الجثث، إذ إن الملح يمتص السوائل والإفرازات، ويحول دون أن تفوح رائحتها، وذلك لحماية السجانين وإدارة السجن من البكتيريا والأمراض”.
ويُعتقد أن الملح الصخري في صيدنايا يُستقدم من سبخة الجبول في جنوب محافظة حلب، وهي الأكبر في سوريا، وفق سرية.
30 ألف شخص دخلوا السجن
وتقدّر الرابطة أن 30 ألف شخص دخلوا إلى سجن صيدنايا منذ اندلاع النزاع في العام 2011، وقد أفرج عن ستة آلاف منهم فقط، فيما يُعتبر معظم الباقين في حكم المفقودين، خصوصا أنه نادراً ما يُبلّغ الأهالي بوفاة أبنائهم، وإن تمكنوا من الحصول على شهادات وفاة لهم، فإنهم لا يتسلمون جثثهم.
وختم سرية بالقول: “صيدنايا هو ذاكرة بلد، لا يجب إغلاقه بل يجب تحويله إلى متحف نقول فيه للناس: هنا تعرّض أشخاص للتعذيب، هنا قُتلوا”.
ويعد سجن صيدنايا أكبر سجون سوريا وأسوئها سمعة، وعُرف منذ تشييده عام 1987 بأنه “سجن عسكري”، لكنه ظل مُعتقلا لمئات من السياسيين السوريين.