سيريا برس _ أنباء سوريا
بدا المشهد الإقليمي في الذكرى السنوية الأولى لاغتيال قائد الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني معقّداً متشابكاً ولكن ليس مفاجئاً، بالتأكيد حيث إيران التي ملأت الدنيا صراخاً وضجيجاً – وفق سياسة ميغافون – المحببة والمفضلة لديها تتلقى الضربات الإسرائيلية دون أي ردّ فعل منها، بينما الإعلام العبري المخادع واللئيم يصوّر دولته وكأنها في حالة دفاع وتحسب من ردّ إيراني في الذكرى السنوية للاغتيال.
بتفصيل أكثر، شنّت إسرائيل صباح الأربعاء الماضي غارات مكثفة ضد عشرات الأهداف التابعة لإيران وميليشياتها ونظام الأسد التابع لها في المنطقة الممتدة من مدينة دير الزور وضواحيها إلى بادية البوكمال على الحدود السورية العراقية.
القصف استمر لفترة طويلة نسبياً وأوقع عشرات القتلى في صفوف إيران وميليشياتها والنظام دون أي ردّ فعل أو إطلاق ولو رصاصة واحدة، ودون حتى ردّ ميغافوني صاخب، كما جرت العادة من قبل الحشد الشعبي الإعلامي الإيراني الناطق بالعربية مع الاحتفاظ بحق الردّ في المكان والزمان المناسبين، والتمسك بما يوصف إيرانياً بالصبر الاستراتيجي أو الغلبة البرمجية، وهو المصطلح الجديد الذي اجترحه أخيراً الزعيم الإيراني علي خامنئي لتبرير الضعف والعجز عن الرد على الصفعات الأميركية والإسرائيلية المتتالية داخل إيران وخارجها.
الغارات الإسرائيلية الأخيرة كانت الرابعة ضد أهداف إيرانية بسوريا في غضون أسبوعين تقريباً، وكانت سبقتها ثلاث غارات جنوب دمشق خلال عشرة أيام. وعلى سبيل المثال فقد شنت إسرائيل خلال العام الماضي 50 غارة ضد إيران وميليشياتها ومواقع النظام الخاضع لسلطتها بمعدل أربع غارات شهرياً أي غارة أسبوعياً، إضافة إلى مئات العمليات الأمنية غير المعلنة على الحدود السورية اللبنانية دون أي ردّ من إيران الصابرة استراتيجياً والمنشغلة بالبحث عن الغلبة البرمجية.
غارات دير الزور – البوكمال الأخيرة بدت مفعمة بالدلالات ليس فقط فيما يخص طرفيها الفاعل الإسرائيلي والمفعول به الإيراني، وإنما لوجود أبعاد أميركية وروسية جلية ومعلنة فيها ولا تخطئها العين أصلاً.
بداية، واضح طبعاً أننا أمام تكثيف للغارات الإسرائيلية ضد أهداف إيرانية في سوريا، حيث أصبحت وتيرتها بمعدل مرتين أسبوعياً، ويعود هذا أساساً لاعتقاد تل أبيب بضعف طهران وتراجعها على عدة مستويات داخلية تتعلق بالفشل في مواجهة كورونا والأزمة الاقتصادية المتفاقمة نتيجة الجائحة، والعقوبات الأميركية الصارمة وخارجية لتراجع وضعف الحلفاء والأدوات الإقليمية كانعكاس لضعف مشغليهم في طهران المتخبطة المفتقدة للإرادة وحتى القدرة على الردّ.
إلى ذلك تعتقد تل أبيب أن غياب قاسم سليماني ترك فراغاً كبيراً وراءه، عجز خليفته إسماعيل قآاني عن ملئه، وأن هذا الأخير لم يفهم ويستوعب الواقع ومهام منصبه جيداً، ناهيك عن قدرته على تخطيط وتنفيذ ردّ جدّي وقوي ضد إسرائيل.
تبدو الدولة العبرية واثقة كذلك من تخوّف إيراني تجاه هجوم أميركي ساحق ضدها في الأيام الأخيرة لولاية الرئيس دونالد ترامب في البيت الأبيض، وهذا يجعلها في حالة دفاعية لا تسمح لها بالرد أو حتى مجرد التفكير به.
الغارات الإسرائيلية تحمل بالتأكيد في طياتها رسالة إلى إدارة الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن مفادها أن الخلافات مع طهران لا تتعلق فقط بملفها النووي، وأن تل أبيب مستمرة في محاربة التموضع الإيراني بين سوريا والعراق مع الانتباه جيداً إلى حقيقة أنها لم تهاجم إيران عندما تدخلت في سوريا بعد اندلاع الثورة وجنّدت ميليشيات طائفية دفاعاً عن بشار الأسد ونظامه، ولا حتى عندما هيمنت على العراق كقوة احتلال صغرى تحت أميركا كقوة احتلال كبرى مع تذكر ما قاله جاك سترو وزير الخارجية البريطاني السابق عن تعاون إسرائيل وإيران على تدمير العراق، غير أن التموضع الإيراني الاستراتيجي طويل المدى في سوريا شيء آخر وستحاربه إسرائيل دون هوادة بدعم وتفهم واضحين من أميركا وحتى من روسيا.
بدت دلالة المكان صارخة أيضاً لاستهداف الغارات المنطقة الحدودية بين سوريا والعراق التي باتت موقع التموضع الجديد لإيران ومعسكرات الميليشيات التي يشرف عليها الحرس ومستودعات تخزين الأسلحة الثقيلة هرباً من الضربات الإسرائيلية في العمق السوري تحديداً في دمشق ومحيطها.
في السياق الأميركي وقعت غارات دير الزور- البوكمال، بينما كان رئيس الموساد يوسي كوهين في زيارة لواشنطن، حيث شوهد يوم الإثنين علناً في مطعم ميلانو الشهير بالمدينة مع صديقه مسؤول وكالة المخابرات المركزية السابق وزير الخارجية الحالي مايك بومبيو وجرى تنسيق الغارات بينهما الاثنين. وكان لافتاً قول مصدر أميركي لوكالة أسيوشييتدبرس “الأربعاء” أن بلاده نقلت لإسرائيل معلومات تتعلق بنقل إيران أسلحة نوعية وتجهيزات ذات علاقة بمشروعها النووي لتخزينها في منطقة آمنة بعيداً عن ضربة أميركية محتملة لمواقعها النووية داخل إيران. وهذه المعلومات ساهمت مباشرة في تنفيذ الغارات الإسرائيلية الأخيرة التي تمت بتفاهم تام بين الجانبين.
من هذه الزاوية يبدو الحضور الأميركي في غارات دير الزور- البوكمال مقصوداً متعمداً وعلنياً ولا يهدف فقط إلى إحراج الإدارة القادمة للاستمرار في نفس السياسة، وإنما لاستفزاز إيران ودفعها للردّ ما يمثل مبرراً لهجوم أميركي ساحق ضدها.
الغارات الإسرائيلية استهدفت وعلى غير العادة حيزاً حضرياً داخل مدينة دير الزور رغم الوجود الروسي الكبير بالمدينة والمنطقة ما يعني ليس فقط موافقة موسكو على الغارات، وإنما احتمال تواطئها أيضاً خاصة مع القنوات الأمنية المفتوحة بين الجيشين الروسي والإسرائيلي، وتزايد الحديث عن توسيع الانتشار الروسي بالمنطقة لتحجيم التموضع الإيراني فيها.
عموماً بات المصطلح الإيراني “الصبر الاستراتيجي” في التعاطي مع الغارات والهجمات الأميركية والإسرائيلية قديماً ومثيرا للسخرية، ولذلك تم تغييره إلى الغلبة البرمجية حسب التعبير الجديد لعلي خامنئي الذي يعني العمل على إنجاح المشروع الإيراني ولو بعد حين، وهو مجرد تذاكي وتلاعب لغوي ومحاولة لإعطاء طابع فقهي لعبارة الاحتفاظ بحق الردّ في الزمان والمكان الملائمين، وهي العبارة التي تلتزم بها إيران منذ سنوات تجاه مئات الغارات والهجمات الإسرائيلية، والتي تلتزم بها أيضاً الأذرع والميليشيات والحشود الشعبية التابعة لها بما فيها حزب الله الذراع المركزي والمعبر الرسمي عن سياسة ميغافون الإيرانية.
في الأخير لا بد من التذكير كما دائماً بثابتين مهمين أولهما سعي إسرائيل إلى استغلال الممارسات والجرائم الإيرانية الاستعمارية والتوسعية في الدول العربية للتغطية على مشروعها الاستعماري العنصري وممارساتها الإجرامية بحق الشعب الفلسطيني والشعوب العربية.
أما الثاني فيتعلق بالمقاربة الصحيحة والضرورية تجاه إسرائيل وإيران لجهة عدم وجود أفضلية أخلاقية أو سياسية لإحداهما على الأخرى، وأن الضربات الإسرائيلية للأهداف الإيرانية لا تعطي شرعية لوجود هذه الأخيرة في سوريا، وبالتأكيد لا تعطي شرعية لإسرائيل نفسها كقوة استعمارية في المنطقة، مع الانتباه إلى الفرق الجوهري أيضاً والمتمثل بكون إيران دولة طبيعية في المنطقة تنتهي المشكلات معها بمجرد تفكيك مشروعها الاستعماري – الإمبراطوري القومي المذهبي – وانسحابها من الدول العربية، بينما إسرائيل دولة عنصرية طارئة ومستحدثة حيث لا سلام ولا أمن واستقرار بوجودها.
ماجد عزام _ موقع تلفزيون سوريا