قبل عشر سنوات لم تكن وقائع بدايات القرن الماضي تتهافت على الذاكرة، وكان الحديث عن الصراع القادم لا يتخطّى عتبة جدل نخبوي يتركز على “صدام الحضارات”، وهو جدل راحت تغذيه صراعات الحروب الدينية والمذهبية التي تحفر تحتها قوى امبراطورية ظنّ العالم أنها ماتت، إلا أنها خرجت علينا فجأة مثل مخلوقات سينما الخيال العلمي التي نظنّ أنها ستموت في نهاية “الفيلم” ثم نتفاجأ أنها صمّمت لتعيش طويلاً لكي يستمر العرض.
في بلادنا وبعد أن انتهى الاستعمار ـ كما نظنّ ـ نكتشف اليوم أنّنا كنّا في الجزء الأول، وهو قد يكون الجزء العاشر أو الألف في أحداث التاريخ، فكلّ مرحلة قبل أن تنتهي يجري تأهيل الساحة للمرحلة القادمة، وهو تماما ما حصل بالنسبة لشعوب المنطقة في اتفاقات سايكس ـ بيكوـ سازانوف وغيرها من التحضيرات.
في المكان الذي يصعب فيه تغذية الصراع المذهبي، يمكن خلق صراع من نوع آخر، صراع عروش ومشيخات مثلاً، أو صراع أحزاب يسارية أو اشتراكية كما حصل بين سورية والعراق في حالة “البعث”، وهناك صراع مياه كما هو الحال في “النيل”، وقوميات كما يحصل بين الأكراد ومحيطهم، ويجري تطوير أدوات الصراع محليّاً وفقاً للحاجة، كأن يتقاتل الدروز والمسيحيون، والدروز والحوارنة، والموارنة والأرثوذوكس، وحتى ضمن البيئة المحلية الواحدة يمكن خلق صراع يحافظ على الخراب والأمثلة كثيرة. بعد نحو ثمانية عقود على انتهاء الانتداب البريطاني ـ الفرنسي، ونحو قرن على انتهاء الحكم العثماني (الباب العالي)، يمكننا أن نلاحظ عودة نفوذ ورثة الامبراطوريات، كما أن جميع الدول المنخرطة في الحربين العالميتين الأولى والثانية حاضرة في صراعات بينية ساحتها دول المنطقة، وهو صراع تغذّيه عوامل متعددة ويحتاج فقط لموارد ماديّة وأخرى بشرية، وموارده الماديّة حاضرة، مثل ثروة الغاز المكتشفة في شرق المتوسط، والحاجة لتصريف المنتجات العسكرية والتكنولوجيا الحديثة، وحتى العقاقير الطبية، أما موارده البشرية فأكثر سهولة وتوافراً، والقاعدة الذهبية في ذلك هي “إصنع دكتاتورا متوحشاً وقم بتسمينه لوقت الحاجة” كما حصل ويحصل في سوريا والعراق وإيران ومصر وليبيا واليمن والسودان.
السؤال المعضلة: هل تتحمل شعوب المنطقة مسؤولية هذا الخراب مثل زعاماتها، أم أنه مغلوب على أمرها. الإجابة على ذلك السؤال سهلة ومستحيلة في ذات الوقت، سهلة بالقول إن الأنظمة هي نتاج استكانة الشعوب، أو “كيفما تكونوا يولّى عليكم”، إلا أنها إجابة ساذجة وعاطفية، فشعوب المنطقة هي ضحيّة تركز الثروة والعلوم في أماكن أخرى من هذا العالم، إذ كيف يمكن المقارنة بين شعبين أحدهما يعاني البطالة والجوع والفقر وضعف التعليم، شعوب لا يلاقي فيها الطفل خيمةً أو مدفأة من الحطب، وأخرى تتمتع بآخر ما أنتجته الحضارة من تكنولوجيا ونظريات ويكون فيها الطفل تحت العناية قبل أن يولد، ثم يخرج إلى هذا العالم مدعوماً بقوانين تمنحه حقّ التعليم والرعاية الصحية.
يمكن الاستدلال بتجارب ناجحة لشعوب استطاعت الانعتاق، لكن كل تلك التجارب لها ظروفها التاريخية، واستندت إلى مقومات منطقية مثل ظاهرة العبودية، أو النزعات القومية أو الدينية، وما عدا ذلك لا يمكن الركون إلى نظرية بناء الدولة بامتلاك الثروة فقط، فالثروة تكون عامل تدمير في حال لم تتشكل معادلة الوعي، كما أن الوعي المستند إلى مقومات صموده يمكنه بناء الثروة على اعتبار أن الاستثمار في الإنسان هو أهم عوامل النجاح.
بمراجعة تاريخية بسيطة سنجد أن الأتراك والفرس اعتمدوا على الفكرة القومية لبناء امبراطورياتهم، فيما اعتمدت الإمبراطورية الرومانية على استثمار الدّين والقوة، والأمويون والعباسيون استندوا إلى سلطة دينية، أما الدول الأوروبية الحديثة فاعتمدت على احتكار التكنولوجيا والقوة. قبل نحو ألف ومئتي عام كان العرب يحكمون بمظلة الإسلام مناطق تمتد من الصين إلى الغرب الأوروبي، واليوم يعتبر الإسلام عامل ضعف بصورته المتوحشة التي رسمتها “داعش” و”القاعدة” وبقية التنظيمات المتشددة، مع الإشارة إلى أن الإسلام العنيف لا يشكل سوى جزء بسيط بحركاته وجماعاته بالنظر إلى وجود نحو مليار ونصف من المسلمين حول العالم. وكما كان الإسلام مفتاح قوة في عصر مضى، فهو اليوم عامل ضعف بسبب حركات “راديكالية” متشددة، كما أنه يستخدم من قبل الإمبراطوريات والقوى الاستعمارية الكلاسيكية وسيلة تخويف سياسي وأدلجة لإعادة السيطرة بحجج منها الأمن القومي والاستراتيجي. وفي وقت يطلّ فيه اليمين الديني في كثير من الدول المتحضرة، تسعى أنظمة عربية لمعالجة مشكلة التشدد بالتبرؤ من الإسلام، بل إن البعض يتندّر بأن بعض الأنظمة تخطط للعودة إلى عصر “أبي لهب” وأصنام قريش لتبرئة نفسها، وهو هروب من العجز الحاصل على مستوى إنتاج الحلول الفكرية، مع وجود تيارات دينية سياسية أثبتت أنها لا تختلف عن الأنظمة العسكرية وفكرتها للحكم.
ما قاله الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” مؤخراً بأن “الإسلام دين يمر اليوم بأزمة في جميع أنحاء العالم” هو صحيح عندما يتناوله مفكرون بتمحيص الأسباب والمآلات والحلول، لكن ما يجعله غير صحيح هو استخدامه على منصة سياسية، وضمن صراع تيارات متنافسة على الحكم بينها طرف يمكن أن ينتج تشدّدا أخطر من تشدد الإسلام “الراديكالي” إذا أتيحت له الفرصة، وهناك شواهد منها جرائم مهاجمة المساجد في عدد من المدن الأوروبية وبينها فرنسا.
لكن “ماكرون” نفسه يتناقض مع ذاته عندما يزور بيروت أكثر من مرّة حاملا “نوستالجيا” الصديق الاستعماري القديم، لاستعادة نفوذ فرنسا في شرق المتوسط، وهو في ذات الوقت لا يبدي موقفاً أخلاقياً في المسألة السورية، بل يبدو مهتمّا مع اشتمام رائحة الغاز والنفط في مياه لبنان بإعادة الجنرال “هنري غورو” لكن بصورة رجل إغاثة بعد تفجير بيروت، وهو “ماكرون” ذاته الذي لم يبد صموداً أخلاقياً للإطاحة بنظام الأسد الذي قتل مئات الآلاف من المدنيين الأبرياء، حيث كان من الأولى لفرنسا أن تقدم اعتذارا علنيا للإنسانية عن رعاية الأسد الأب واستقبال الأسد الابن في الإليزيه ومنحه وسام جوقة الشرف، وعدم الاكتفاء بأخبار إعلامية عن إجراءات سحب الوسام. إذن.. تقع سوريا اليوم تحت خمسة احتلالات، ولن يكون محيطها أحسن حالاً في المستقبل، وهناك جيوش للدول وريثة الإمبراطوريات الاستعمارية، وربما لن ننتظر مزيدا من الوقت حتى نرى أين سيأخذ هذا الصراع منطقتنا بل العالم برمته، إنه صراع طاحن لا يتعلق بالدين ولا الأخلاق ولا الديمقراطية، بل بالمال والسيطرة والقوة، صراع لا أخلاقي ستدفع ثمنه البشرية.
الكاتب “علي عيد” عن زمان الوصل