عندما يتحوّل التعليم إلى عامل إضافي لإعاقة نشوء الوطن السوري!

لم تعرف الجغرافية السياسية لسورية الاستقرار منذ انسلاخها عن كيان السلطنة العثمانية إلى اليوم، ولم تكن الخريطة التي أنتجتها اتفاقيات الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى فيما بينها من جهة، ومع تركيا المهزومة في الحرب من جهة ثانية[1]، مُرضيةً للسوريين، فقد شهدت تغييرات عديدة في مراحل تاريخية متعددة، فمازالت تسمية “سوريا الطبيعية”، أو بلاد الشام، عالقةً في عقول كثير من الوطنيين السوريين، باعتبارها خريطة متخيلة، وما زال حلم قيام دولة عربية موحدة تشمل سوريا الطبيعية وشبه الجزيرة العربية -كما تخيلها الشريف حسين والأمير فيصل والجمعيات السورية المناوئة للاتحاديين الأتراك- يراود أصحاب النزعة القومية.

مع وقوع البلاد تحت سلطة الانتداب الفرنسي، أعاد الجنرال غورو رسم خريطة سورية؛ فتنازل لتركيا عن مساحات واسعة من أرضيها الشمالية، بموجب اتفاقية أنقرة 1921، ثم فصل أقضية بعلبك والبقاع وراشيا وحاصبيا، عن دمشق في 3 آب/ أغسطس 1920، ثم كان إعلان لبنان الكبير في 31 آب/ أغسطس 1920، وترسيم الحدود مع تركيا في العام ذاته، ثم بدأ ترسيم حدود دمشق، وأُعلنت دولة حلب ودولة العلويين، في تشرين الثاني/ نوفمبر 1920، وأعطي لواء إسكندرونة والجزيرة الإدارةَ الممتازة، في تشرين الثاني/ نوفمبر 1920، ثم أعلنت دولة جبل الدروز في 4 آذار/ مارس 1921، وفي عام 1939، تخلّت فرنسا لتركيا عن لواء إسكندرونة.

ونتيجة نضال السوريين ورفضهم مبدأ تقسيم بلدهم، اضطرت فرنسا إلى مغادرة سورية وهي موحدة بمساحة 185.180 ألف كم مربع، ومع ذلك بقي حلم وحدة بلاد الشام والدولة العربية الموحدة يلقى هوًى لدى أصحاب النزعة القومية من السوريين.

اليوم، بعد مضي عقد ونيف على انتفاضة السوريين في آذار/ مارس 2011، أفضت مسارات الصراع السياسي- العسكري، بين مختلف القوى المتدخلة، إلى تكريس وجود مناطق نفوذ متعددة أخذت تتحول مع مرور الوقت إلى كيانات جيوسياسية تتحكم فيها قوى أمر واقع مدعومة من قوى خارجية (انظر الخريطة رقم 2).

خريطة (2) توزع قوى السيطرة في سورية2021

تسعى تلك القوى، عبر أدوات متعددة: عسكرية واقتصادية.. إلى تكريس سلطتها على مناطق نفوذها، الأمر الذي يرفضه أغلب السوريين. وقد لجأت تلك القوى في السنوات الاخيرة إلى إعادة صياغة النظام التربوي القائم وتشكيل نُظم تربوية خاصة بها، عبر توجيه أهدافها ومضامين مناهجها، بغرض توليد أجيال من الطلبة معبأة بأفكار وقيم تضمن لها البقاء والاستمرار في سيطرتها على مناطقها.

كيف يمكن لقوى السيطرة استعمال التربية كأداة تُسهم في إعادة إنتاج تلك القوى، وفي إحكام سلطتها واستدامتها؟

يتم ذلك من خلال أدوات عديدة أهمها:

أولًا، المناهج التعليمية، وهي تتضمن: الأهداف التعليمية والمحتوى التعليمي والخطة الدرسية، وتقنيات التدريس والتقويم. وجميعها مستنبطة من التصورات التربوية للنظام الاجتماعي، حتى نوعية الأشخاص المرغوب في إنتاجهم عبر النظام التعليمي.

يتضمن محتوى المنهاج المعارفَ والمهارات والقيم والخبرات التي تشكل مادة العملية التعليمية الجارية داخل الصف وخارجه، ويوزع إلى مقررات أو مواد أو مساقات، ثم يحدد عدد الساعات التي تلزم لتدريسها وتوزع على سنوات الدراسة وأسابيعها، ويخطط هذا المحتوى بحسب عدد من الأسس، كأهداف النظام التعليمي، وخصائص طلابه وحاجاتهم النمائية والحياتية والمهنية وقدراتهم، وخصائص المجتمع وثقافته وحاجاته وموارده المتاحة وغير ذلك.

شكل (1) المنهاج التعليمي أحد مدخلات النظام التربوي

ثانيًا، من خلال الأنشطة التعليمية خارج قاعات التعليم، وتشمل الخبرات التي يتم التخطيط لها ودعوة الطلاب للمرور بها والتعلم منها.

وبذلك، يتبيّن أن التربية تمتلك عناصر قوة عدة يجري من خلالها إحداث التأثير المعنوي – الثقافي – الانفعالي والسلوكي في المتعلمين. وإنه تأثير كبير، ويزداد تأثيره لو أضفنا القطاع غير النظامي للتربية، وهو قطاع يُعبّر عن السياق الثقافي – الاجتماعي السائد وما يضمّه من أدوات ومؤسسات: دُور العبادة، وسائط التوصل الاجتماعي، الإذاعة والتلفزيون… إلخ.

كيف تم تكييف المنهاج التعليمي ليكون في خدمة قوى التحكم في المناطق المختلفة من سورية؟ المنطقة الأولى، وهي تمتد على شمال شرق وشرق سورية، تديرها “الإدارة الذاتية” لوحدات الحماية الكردية بصورة حاسمة، وقد تم تقسيمها إداريًا إلى سبع مقاطعات[1] : الجزيرة، الفرات، عفرين، الرقة،

منبج، الطبقة، دير الزور، وفي كل مقاطعةٍ لجنة تتولى إدارة التعليم وإعادة فتح المدراس التي تضمّ مئات آلاف الطلاب من مختلف المراحل التعليمية، وتشرف اللجنة على 4356 مدرسة عاملة[1].

بحسب المعلومات المتاحة، ألغت سلطة (قسد) عددًا من الكتب التي كانت مقررة من قبل وزارة التربية السورية قبل 2011، حيث ألغيت مادة التربية الدينية، ووُضِع مقرر “الثقافة والأخلاق”، وكذلك مادة التربية القومية، وفُرض بدلًا منها كتاب “الأمة الديمقراطية”، وفيه تسعى الإدارة التربوية المسؤولة إلى تكريس نظرية حزب العمال الكردستاني عن الأمة الكردية، وفيه موضوعات جديدة تتضمن نضال الشعب الكردي، وتاريخ كردستان والثقافة الكردية، مقابل إلغاء جزء من معلومات كانت تتناول المرحلتين الأموية والعباسية. وكذلك تم تعديل مادة الجغرافيا، ووُضعت فيها معلومات تتعلق بـ “روجآفا” وخارطتها الممتدة شمال سورية من المالكية إلى المتوسط غربًا، وجنوب وشرق تركيا، وشمال العراق، وغرب إيران.  وتم اعتماد كتب/ مواد جديدة مخصصة لطلاب المرحلتين الإعدادية والثانوية: علم المرأة “الجينولوجيا” و”تاريخ الأديان والمعتقدات”.

يتلقى الطالب دروسه بلغته الأم: الكردية أو العربية أو السريانية، ثم يختار إلى جانبها لغة أخرى من اللغات الثلاثة، وبدءًا من الصف الخامس الابتدائي يبدأ تعلم لغة أجنبية.

وإضافة إلى ذلك، ألغي منهاج اليونيسيف “المكثف” في مدارس “روجآفا” الذي وضعته مع تربويي النظام السوري، لتعويض مَن فاته من الأطفال التعليم النظامي في العمر المناسب[2].

لاقت التعديلات والإضافات على المناهج في مدارس إدارة (قسد) رفضًا شعبيًّا، من جانب المكونات غير الكردية، وبخاصة عرب منطقة الجزيرة السورية، باعتبارها مناهج مؤدلجة، ومنحازة من جهة، تتضمن موضوعات غريبة عن الثقافة والتاريخ العربي والمجتمع وثقافته من جهة أخرى، علمًا بأن هذه المنطقة تُعدُّ من أغنى المناطق السورية بالتنويعات الاثنية والدينية والاجتماعية، ولا يستطيع مكون واحد منها فرض سياساته التربوية، الأمر الذي قد يؤدي إلى صدام بين تلك المكونات، وسوف تبقى مضطربة. وقد وصف بعض المعلّمين من أبناء المنطقة تلك المناهجَ بأنها تؤدي إلى “تخريب عقول الطلاب وإفسادهم، جنسيًا وأخلاقيًا، وتدعو للإلحاد وإلغاء الدين الإسلامي في المنطقة”.[3] 

وتجري محاولات الاحتجاجات الشعبية ومقاطعة المناهج الجديدة، من خلال الامتناع عن إرسال الأهالي أبناءهم إلى المدارس، للضغط على سلطة “الإدارة الذاتية”، وإجبارها على التراجع عن التعديلات الجديدة[1].

 ومن المعروف أن هذه المناهج غير معترَف بها ولا بشهادتها لدى الدولة السورية، وهذا يعني أن النظام التعليمي المتبع في إقليم الجزيرة يُقصي الطلابَ عن الجامعات السورية أو الدول الإقليمية، ما جعل الأهالي يتخوفون على مستقبل أبنائهم، واللجوء إلى مدارس النظام في المنطقة -حيث كانت- أو النزوح إلى خارجها. فضلًا عن خطر إسهام تعليم اللغات، وفق النظام الذي تم عرضه، في تكريس تقسيم المقسم أو تعميق الانقسام، لأنه لا توجد لغة واحدة جامعة لكل الطلاب كالعربية، فكل فئة تعلم بلغتها لا غير.

صورة (2) أغلفة بعض الكتب المعتمدة في مناطق الإدارة الذاتية/ قسد

المنطقة الثانية: شمال غرب سورية، تضم شمال إدلب وغرب حلب، وعفرين، وريف حلب الشمالي، وجنوب إدلب وشمال حماة. السلطة التعليمية في هذه المنطقة تتبع وزارة التربية والتعليم التابعة للحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف المعارض، مع سلطة توجيهية للسلطات التركية في مناطق غصن الزيتون ودرع الفرات، عبر ولاة الأقضية الجنوبية المحاذية للحدود السورية.

بحسب تقرير صادر عام 2019[1]، تضم هذه المناطق 53% من المدارس غير الخاضعة لسيطرة النظام، وعددها 1744 مدرسة، فضلًا عن مدارس المخيّمات المنتشرة فيها، وتمثل 29% من مدارس المنطقة، وهي خليط من خيم قماشية وغرف إسمنتية أسقفها ألواح من التوتياء، فضلًا عن غرف إسمنتية ذات أسقف إسمنتية وغرف مسبقة الصنع (كرافانات) وغرف طينية…

صورة (3) مدرسة في المخيّمات شمال سورية

تعتمد مدارس هذه المنطقة المنهاج المُعدّل أي منهاج النظام في دمشق، وقد تمّت تنقيته من المعلومـات التـي تتناول النظام السـوري وأيديولجيته، يتلقى الطلاب في هذه المنطقة دروسهم باللغة العربية، فضلًا عن تلقيهم دروسًا في اللغة التركية، كلغة ثانية في مدارس مجمّعات ريفي حلب الشمالي والشرقي والممتدة من مدينة إعزار شمالي حلب إلى مدينتي جرابلس والباب شرقي حلب، إضافة إلى مدينة عفرين.

تعاني مدارس هذه المنطقة نقصًا واضحًا في عدد الكتب الموزعة للطلاب، ونقصًا في عدد المعلمين ونوعيتهم، وذلك لنقص الموارد المالية، فهي غير قادرة على توفير رواتب المعلمين بصورة كاملة، ولا تتمكن من طباعة الكتب المدرسية وتأمينها للطلاب، وتقوم الإدارات التربوية التركية المسؤولة عن تلك المناطق بسد جزء من العجز الحاصل.

إن ازدواجية أو تعدد جهات الإشراف والتمويل لمدارس شمال غرب سورية قد يفسّر حدوث بعض الإشكالات التعليمية ذات المغزى، منها على سبيل المثال: توزيع كتاب يحمل عنوان “السيرة النبوية” للصف الأول الابتدائي، تمت طباعته وتوزيعه على طلبة مدارس إحدى المناطق التعليمية (مدينة الباب في ريف حلب)، من دون علم الإدارة التعليمية التابعة للحكومة المؤقتة، فأثار ذلك موجة غضب عاصفة من قبل الأهالي والمعلّمين الذين دعوا إلى محاسبة المسؤولين، لما تضمَّنه الكتاب من إساءة إلى الرسول محمد. وقد صدرت بيانات قوى دينية، وتجمعات سياسية في شمال غرب سورية تندد بالجهة المسؤولة عمّا حصل، وقد وصف ما جرى بإنه إساءة تفوق رسومات الرسامين: الفرنسي والنمساوي والسويدي، المسيئة إلى النبي.

المنطقة الثالثة: مدينة إدلب والأرياف القريبة منها، تشرف عليها “حكومة الإنقاذ” التي تتبع “هيئة تحرير الشام/ جبهة النصرة”. نظريًا، توجد مدارس عامة تتبع الحكومة المؤقتة في هذه المنطقة، وتعاني نقصًا في التمويل، حيث يُضرِب المعلمّون عن العمل لعدم تلقيهم رواتبهم منذ سنوات، فضلًا عن غلاء المعيشة والوضع الاقتصادي السيئ، في مقابل انتشار المدارس الدينية التي تتبع لحكومة الإنقاذ “النصرة”.

في عام 2014، باشرت هيئة تحرير الشام ( (HTS بإحداث نظام تعليمي ذي توجه ديني بارز، ومن أشهر مدارسه مجموعة “دار الوحي الشريف”، وشعارها “نحو جيل قرآني فريد”، وقد بلغ عددها 42 مدرسة وتضم 14 ألف طالب وطالبة، وإدارة هذه المجموعة هي الهيئة المسؤولة عن وضع المناهج التعليمية وطباعتها والإشراف على توزيعها[2]. وقد تمكّنت هذه المدارس من استقطاب أعداد كبيرة من أطفال المناطق التي تنتشر فيها، وبخاصة أطفال مقاتلي التنظيم والأيتام[3].

تعتمد هذه المدارس مبدأ الفصل بين الجنسَين، ويشمل ذلك الطلاب والمعلّمين، ومناهجها خالية من دروس الموسيقا والرسم، وبدلًا من حصة الرياضة، وُضعت حصّة «الإعداد البدني»[4] .

تتفوق مدارس “الهيئة” على مدارس الحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف، نظرًا لوفرة مصادر تمويل تردها من الرسوم المفروضة على المعابر بين سورية وتركيا، والبضائع التي تعبرها، إضافة إلى أن هناك رسومَ تعليم تفرض على البضائع من معابر أخرى مع مناطق ريف حلب الشمالي، ورسومًا تقتطع عند إجراء العديد من المعاملات في الدوائر التابعة لما تسمى “حكومة الإنقاذ”، فهي توفر خدمة نقل الطلاب من منازلهم إلى المدارس وبالعكس، عبر حافلات خاصة تابعة للمدارس، وكذلك توفر التدفئة في الغرف الصفية، فضلًا عن منح الطلاب لباسًا موحدًا للذكور وآخر للإناث، إضافة إلى مجانية التعليم، وكذلك هناك مزايا للمعلمين، من حيث الرواتب المرتفعة نسبيًا، مع تلقيهم المساعدات الغذائية والمكافآت.

المنطقة الرابعة مناطق النظام: ما زال التعليم في مناطق النظام -على الرغم من تعديله بضع مرّات منذ اندلاع الاحتجاجات الشعبية في 2011- يحافظ على خصائصه المعروفة[5]، فما زالت المناهج تعج بالأفكار المستمدة من عقيدة البعث وأدبياته، فكتب التربية الاجتماعية والتربية الوطنية في المناهج التي تم تعديلها في 2018 تروّج لأفكار حزب البعث ودوره في معارك الاستقلال عام 1946، وتحرير العمال والفلاحين من الإقطاع والرأسمالية، وفيها معلومات عن مؤتمرات الحزب القطرية والقومية، وتركز على الحركة “التصحيحية” التي قادها حافظ الأسد في العام 1970، وعدّها منطلق العمل الوطني التحرري، ونقطة البدء لنهضة سورية اجتماعيًا واقتصاديًا، كل ذلك مع الإطناب في الدعاية “للأب القائد” ودوره في جعل سورية قلعة يهابها الجميع، وأن شخصيته توازي شخصيات تاريخية معروفة، كصلاح الدين الأيوبي وزنوبيا ملكة تدمر، وأقواله إضافة إلى أقوال وارثه تملأ الكتب فضلًا عن صورهما.

وبالطبع، فقد تناولت مناهج النظام بكثرة ما جرى في سورية “الثورة السورية”، وعدّته حربًا على الإرهاب والإرهابيين وعملاء المؤامرة الإمبريالية الكونية. والجديد لدى مناهج النظام طرحُ منهاج جديد، بعنوان “التربية المدنية”، كجزء من كتاب التربية الوطنية أو التربية الاجتماعية، تضمّن طرح مسائل حيوية حول المواطنة والمجتمع المدني، ولكن بطريقة مشوهة وتلفيقية تعبّر عن فهم البعث/ النظام لمفاهيم حقوقية واجتماعية وسياسة، مع تقديم أمثلة عنها من أدبيات النظام وسياساته، مثلًا: النظام الديمقراطي يتم التعبير عنه من خلال المنظمات الشعبية في سورية، والانتخابات تلك العملية الديمقراطية التي يتم احترامها في سورية، ومثالها انتخابات الإدارة المحلية ومجلس الشعب!! وعندما يقدّم للطالب مفهوم التعددية السياسية، فيكون المثال هو “الجبهة الوطنية الديمقراطية”، أما عن الإرهاب فهو المتمثل بإرهاب العدو الصهيوني… إلخ، وفي الكتاب حديثٌ عن تكافؤ الفرص، والمساواة أمام القانون، وحرية وسائل الإعلام، وانتهاكات قوانين الحرب والقانون الإنساني، وبالتأكيد يعدّ العدو “الصهيوني” خير مثال على جميع تلك الانتهاكات.

يجري ذلك كله داخل بيئة مدرسية، يمكن وصفها بـ «المدرسة الثكنة العسكرية: فالمدارس الرسمية جميعها ذات أسوار مرتفعة، وبوابات حديدية سوداء، وجدران بلون التراب. ما أدى إلى تعميم الانغلاق الفكري الثقافي والسياسي، والدوغمائية، والولاء والطاعة، والتزلف للسلطة..

أخيرًا، عدَّ النظام السوري نفسَه منتصرًا في حربه على جزء كبير من السوريين، وقرّر -نقلًا عن وزير التربية في حكومة النظام[6]، إدخال منهاج جديد لمدارسه، بعنوان “أسباب الحرب في سورية وسبل منع تكرارها”، وبحسب الوزير فإن الغرض من هذا المنهاج التعليمي هو عرض ما جرى في سورية، وتحليل الأسباب والتداعيات والآثار، وكيفية تجنب حدوث ذلك في المستقبل، وسوف يتم اعتماد مدخل التشريب Interdisciplinary Approach عن طريق تطعيم عدد من الكتب التعليمية القائمة بمحتوى الكتاب الجديد.

 ولا بدّ من الإشارة – ونحن نتناول التعليم في مناطق النظام- إلى ازدياد النفوذ الثقافي الإيراني والروسي في النظام التعليمي العالي وكذلك في التعليم ما قبل العالي؛ فقد تمكن “الحرس الثوري” الإيراني من عقد عدد من الاتفاقيات الثقافية مع الجانب السوري، تسمح له بالإشراف على المناهج التعليمية، وتعديلها وطباعة كتبها، فضلًا عن تعليم الفارسية. ونذكر من هذه الاتفاقيات ومذكرات التفاهم:

* اتفاق تعاون نص على «تبادل قاعدة البيانات العلمية والإنجازات البحثية والمشاركة في إنشاء حاضنة للأعمال وحديقة للعلوم والتكنولوجيا في جامعة دمشق». ويهدف إلى تعزيز التعاون في مجال تبادل الكتب والمطبوعات والمواد العلمية والنشرات والدوريات والاستفادة من المكتبات الإلكترونية وتنظيم المؤتمرات والندوات العلمية والثقافية المشتركة.

* مُذكرة تعاون بين جامعة دمشق وجامعة مالك الأشتر الإيرانية، مذكرة تفاهم في مجال الأبحاث والدراسات العليا، ولا سيّما في مجال الصناعات والعلوم التقنية والميكانيك والروبوت وعلوم الكومبيوتر.
* تأسيس فروع لستّ جامعات إيرانية في سورية، منها «الفارابي للدراسات العليا»، و«الجامعة الإسلامية الحرة الإيرانية» (آزاد)، و«كلية المذاهب الإسلامية الإيرانية» في دمشق، و«جامعة تربية مدرس»، و«جامعة المصطفى العالمية» التي افتتح فرعها في عام 2013 ويضم ثلاث شعب في محافظات حلب واللاذقية ودمشق.

* اتفاقية تعاون في 2020، بهدف إسهام إيران في ترميم المدارس وطباعة الكتب وتطوير ودعم التعليم المهني والتقني[7].

ومنذ عام 2015، وقَّعت الجهات الروسية المسؤولة عن قطاع الثقافة والتعليم قبل الثانوي وكذلك التعليم العالي عددًا من الاتفاقيات التي تخصّ تعليم اللغة والثقافة الروسية في المدارس الحكومية وعبر معلمين روس، مع تقديم منح للطلاب السوريين في عدد من جامعاتهم.

خلاصة واستنتاجات

* لاحظنا أن ديدن أي قوة عسكرية تمكّنت من التحوّل إلى قوة أمر واقع، السعي لبسط أيديولوجيتها -سواء أكانت دينية أم سياسية فكرية- على النظم التعليمية التي صنعتها وهيمنت عليها؛ فهي تراها ملعبها الفعال الذي تستثمر فيه بقصد التأثير في عقول وعواطف المتعلمين، وهكذا يصبح أطفال سورية أشبه برهائن ضعيفة بين أيدي تلك القوى التي تعدّ نفسها حاملة قيم الحق والمعرفة.

* تطاولت قوى الأمر الواقع على المناهج التعليمية، بتعديل المناهج القائمة أو بإلغائها، ووضعت مناهج جديدة، ويحصل كل ذلك من دون مراعاة حاجات أصحاب الشأن -الطلاب وذويهم- وكذلك من دون مراعاة قدراتهم ومستويات نموهم العقلية والانفعالية والجسدية.

* تم العبث بمحتوى عدد من المناهج التعليمية، من دون مراعاة مرجعيات السكان الثقافية والدينية والاثنية.. إلخ، وجرى ذلك من دون وعيٍ لما يتطلبه المجتمع وحاجاته. فبناء مناهج جديدة أو تعديل مناهج قائمة يحتاج إلى متخصصين أكفاء بعلم المناهج التعليمية.

* وهكذا تتحوّل التربية، على أيدي تلك القوى، من أداة لتوحيد الوطن السوري، من خلال مناهج موحدة تعكس القاسم الثقافي الوطني المشترك بين المكونات السورية على تنوعها، دون إهمال حقوق المكونات مهما صغُر حجمها في تعليم ثقافتها ولغتها إلى جانب اللغة الرسمية (اللغة العربية)، إلى أداة إضافية تقطع مع مساعي باقي السوريين لتوليد الوطنية السورية.

لقد نهضت أمم كثيرة بمعونة التعليم، فهو يمثل رافعة، بل قاطرة ضرورية لنجاح عملية التنمية. لقد فكّر التربوي والفيلسوف الأميركي جون ديوي بوحدة الشعوب الأميركية المتناهية في تعددها وتنوع مصادرها، من خلال توحيد المدرسة العمومية/ الحكومية المجانية وذات المناهج الموحدة، إلى جانب منح الحقوق الثقافية لكل أبناء المكونات الثقافية، وقد ولدت الأمة الأميركية حقًا، ويفخر بالولاء لها جميع الأميركيين.

إن من أخطر ما يمكن أن تنتهي إليه فوضى المرجعيات التعليمية في سورية، العبث بعقول الأطفال ومصادرتها لمصالح ضيقة لا وطنية، تؤجج مشاعر الكره والشوفينية والأحكام المسبقة فيما بين المكونات السورية المختلفة، التي قد تؤدي إلى إشعال الصراعات البينية والإطاحة بإمكانية خلق وطنية سورية جامعة.

ريمون المعلولي _ مركز حرمون للدراسات

[1] وحدة تنسيق الدعم، المدارس في سورية 2019 الإصدار 05، انظر” www.ACU-sy.org/imu-report

[2] معلومات مجموعة من المصدر التالي: انظر https://2u.pw/kp44a

[3]انظر صفحة دار الوحي الشريف على (فيسبوك) https://2u.pw/kp44a

[4] انظر دراسة المعلولي “الأيديولوجيا والتعليم في دولة البغدادي” . https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/alaydywlwjyt-waltlym-fy-dwlt-alkhlyft-albghdady

[5] راجع المعلولي: الأيديولوجيا والتعليم خمسون عامًا على التعليم في سورية.

[6] https://xeber24.org/archives/367497

[7] وكالة سانا، http://www.sana.sy/?p=1515633

[1] انظر بعض ما يكتبه المعترضون على منهاج الإدارة الذاتية https://furat-sy.com/2020/07/13/3248/

[1] وحدة تنسيق الدعم، المدارس في سورية 2019 الإصدار 05

[2] أعد منهاج اليونيسف للأطفال الذين تـراوح أعمارهم بيـن 8 -15 سـنة، ولـم يسـبق لهـم الالتحـاق بالمدرسـة (ما زالوا أميين) أو الأطفال الذين يعـودون إلى المـدارس بعد التسـرب لمـدة عـام على الأقـل، حيث يجتـازون الصفوف مـن 1 حتى 8، وفق أربعـة مسـتويات، ووفـق الخطة والمناهـج الموضوعين بأربـع سـنوات.

[3]  https://www.youtube.com/watch?v=BMdTC_rdo4U

[1] وثائق الإدارة الذاتية.

[1] اتفاقية سايكس بيكو 1916- قرارات مؤتمر سان ريمو 1920- اتفاقية انقرة 1921

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

آخر الأخبار

سوريّات في فخ “تطبيقات البث المباشر”..بين دعارة إلكترونية واتجار بالبشر

يستقصي هذا التحقيق تفشي “تطبيقات البث المباشر” داخل سوريا، ووقوع العديد من الفتيات في فخ تلك التطبيقات، ليجدن أنفسهن يمارسن شكلاً من أشكال “الدعارة...

ابتزاز واغتصابٌ وتعذيب.. سوريون محاصرون في مراكز الاحتجاز اللّيبية

يستقصي هذا التحقيق أحوال المحتجزين السوريين في ليبيا خلافاً للقانون الدولي، وانتهاكات حقوق الإنسان داخل مراكز احتجاز المهاجرين، وخاصة تلك التي تتبع “جهاز دعم...
ماروتا سيتي دمشق

كعكةُ “ماروتا سيتي” بمليارات الدولارات

آلاف الأسر تتسوّل حقّها بـ"السكن البديل" على أبواب "محافظة دمشق" يستقصي التحقيق أحوال سكان منطقة المزة – بساتين الرازي في دمشق، بعد تهجيرهم من بيوتهم...
جمعية الأمل لمكافحة السرطان

معاناة اللاجئات السوريات المصابات بمرض السرطان في تركيا

تصطدم مريضات السرطان من اللاجئات السوريات في تركيا بحواجز تمنعهن من تلقي العلاج على الوجه الأمثل، بداية من أوضاعهن الاقتصادية الصعبة والاختلاف في أحقية...

خدمات المساعدة القانونية المجانية للاجئين السوريين في تركيا

غصون أبوالذهب _ syria press_ أنباء سوريا الجهل بالحقوق القانونية للاجئين السوريين في تركيا يقف حجر عثرة أمام ممارسة حقهم بالوصول إلى العدالة، ويمنعهم...

الأكثر قراءة