تبدو التحالفات الإقليمية والدولية، على الرقعة السورية، عُرضةً لانزياحات نوعية في الاصطفافات والمعادلات الحاكمة لها، على خلفية تطورات الأزمة الأوكرانية. إذ تبدو المصالح ماالإسرائيلية أقرب إلى روسيا منها إلى الولايات المتحدة الأميركية، بصورة غير مسبوقة. فيما تبدو المصالح الروسية أقرب إلى إسرائيل منها إلى إيران. وتبدو طهران على مسافة أقرب مما هو معتاد، من واشنطن، وأبعد عن موسكو. أما نظام الأسد، فما يزال يلعب لعبته المعتادة، إذ يضع قدماً هنا، وأخرى هناك. فهو يدعم الغزو الروسي لأوكرانيا، وينشر صور بوتين بالعاصمة دمشق، فيما يرسل صندوق أسراره الأمني، علي مملوك، إلى طهران، في زيارة معلنة، وغير مسبوقة، ويستقبل قائد الحشد الشعبي العراقي المقرّب من إيران.
ومنذ يوم الجمعة الفائت، حدثت سلسلة تطورات دبلوماسية، تحمل أبعاداً استراتيجية. فرئيس الوزراء الإسرائيلي زار موسكو سرّاً. وفيما كان عنوان الزيارة المُعلن هو التوسط لحل الأزمة الأوكرانية، بالاستفادة من علاقة إسرائيل المميزة مع أطراف رئيسية فيها – روسيا، أوكرانيا، والولايات المتحدة-، كان محتوى المحادثات ينحو باتجاه ملفين أكثر أولوية لدى تل أبيب. الأول: استمرار التنسيق الإسرائيلي – الروسي، الذي يتيح لإسرائيل شن ضربات ضد أهداف إيرانية في سوريا، بحريّة كاملة، ودون أي عقبات روسية. والثاني: البحث عن نقاط تفاهم إسرائيلية – روسية حيال مساعي الغرب لإعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني، الذي أصبحت قاب قوسين أو أدنى من التحقق.
اعتمدت موسكو استراتيجية ابتزاز لعرقلة الاتفاق النووي الإيراني، إذ طلبت ضمانات مكتوبة من الشركاء الغربيين في الاتفاق بأن عقوباتهم على روسيا، على خلفية غزو أوكرانيا، لن تؤثر على التعاون الروسي الاقتصادي والاستثماري والتقني والعسكري مع إيران
وفيما لم تظهر أية نتائج إيجابية لمساعي الوساطة الإسرائيلية على خط الأزمة الأوكرانية،
تبدت ترجمتان لنجاح المساعي الإسرائيلية في الملفين الآخرين. إذ اختُبر التنسيق الإسرائيلي – الروسي في سوريا، للمرة الأولى منذ بدء الحرب في أوكرانيا، حينما قصفت إسرائيل، فجر الاثنين، أهدافاً إيرانية في محيط العاصمة دمشق، بعد يومين من عودة رئيس الوزراء الإسرائيلي من موسكو. وبالتزامن مع ذلك، اعتمدت موسكو استراتيجية ابتزاز لعرقلة الاتفاق النووي الإيراني، إذ طلبت ضمانات مكتوبة من الشركاء الغربيين في الاتفاق بأن عقوباتهم على روسيا، على خلفية غزو أوكرانيا، لن تؤثر على التعاون الروسي الاقتصادي والاستثماري والتقني والعسكري مع إيران.
وهكذا نجحت إسرائيل في اختراق مساعي أطراف الاتفاق النووي الإيراني، لإعادة إحيائه، من قناة غير متوقعة –روسيا- هذا التطور، أغضب الأميركيين والأوروبيين، والإيرانيين أيضاً. وطلبت طهران توضيحات من موسكو، فكان الرد الروسي تأكيداً لنية الدبلوماسية الروسية ممارسة لعبة الابتزاز بذرائع واهية.
وبعيد عقد الاتفاق النووي الإيراني عام 2015، كان لروسيا دور بارز في تنفيذه. تحديداً في جانبين، نقل كميات من اليورانيوم المخصّب من إيران إلى أراضيها، وتوفير دعم لإيران في برنامجها النووي المدني. ناهيك عن دورها البارز في الوساطة لإعادة إحياء الاتفاق بعد إجهاضه، في عهد إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب.
الانقلاب الروسي على مساعي إحياء الاتفاق النووي الإيراني، يبدو لأسباب تكتيكية مرحلية، متعلقة بابتزاز جميع الأطراف، بما فيهم إيران والأميركيون والأوروبيون، على خلفية التهديد بفرض عقوبات على صادرات روسيا من النفط. فموسكو غير مستعدة لأن ترى النفط الإيراني يحل محل نفطها في الأسواق الدولية. وهي مستعدة لتخريب الاتفاق النووي، إن كان ذلك سيحدث فعلاً. لكن، على المدى البعيد، ليس لروسيا مصلحة في عدم إحياء الاتفاق، إذ لا مصلحة لها في أن ترى إيران، نووية. فيما الأخيرة تتلهف لرفع العقوبات عنها، ولعودة نفطها إلى الأسواق، خاصة مع ارتفاع أسعاره الهائل. بدورها، تراهن إسرائيل على المزيد من العرقلة للاتفاق الذي تراه لا يخدم مصالحها،
إذ إن عودة النفط الإيراني، دون قيود، إلى الأسواق، في ظل أسعار غير مسبوقة منذ 14 عاماً، يعني ضخ إيرادات مالية هائلة في الخزانة الإيرانية، ستنعكس تعزيزاً للمساعي الإيرانية للهيمنة في المنطقة، والتي تعدها إسرائيل، تهديداً لأمنها القومي. خاصة في سوريا ولبنان.
وفيما تبدو اللوحة معقدة للغاية، تتابع التطورات الدبلوماسية المفاجئة. إذ زار وفد أميركي رفيع المستوى، فنزويلا، الحليف الروسي المقرّب، والخصم اللدود لواشنطن في أميركا اللاتينية. الزيارة غير المسبوقة منذ سنوات، جاءت في سياق استراتيجية أميركية للتقرّب من حلفاء روسيا. إذ تواصلت الدبلوماسية الأميركية مع الصين. بالتزامن مع تحركها نحو كراكاس. التحرك نحو الأخيرة كان عنوانه بحث مدى استعداد فنزويلا للتراجع عن تحالفها الوثيق مع موسكو، وأن تكون بديلاً محتملاً لإمدادات النفط، في حال قررت واشنطن بالفعل، فرض قيود على صادرات الخام الروسي.
هل يمكن أن يتكرر ذات التحرك الأميركي، باتجاه نظام الأسد في سوريا، خاصة مع رغبة واشنطن الحثيثة بعقد اتفاق مع إيران؟
نظام نيكولاس مادورو، الذي يحكم كراكاس، كان قد واجه حملة عقوبات وضغط دبلوماسي غربي بغية الإطاحة به. ونال مادورو دعماً سخياً من موسكو، كان أحد أسباب صموده على كرسي الحكم. لكن كلفة هذا الصمود كانت تدهوراً معيشياً غير مسبوق لشعبه. الأمر الذي يطرح تساؤلات حول الموقف الذي سيتخذه مادورو من ملامح الانفتاح الأميركي عليه. هذا التحرك الدبلوماسي الأميركي، بمحتواه الاستراتيجي، وهو الانفتاح على حلفاء روسيا، لجذبهم بعيداً عنها، يحيلنا إلى تساؤل ملح: هل يمكن أن يتكرر ذات التحرك الأميركي، باتجاه نظام الأسد في سوريا، خاصة مع رغبة واشنطن الحثيثة بعقد اتفاق مع إيران؟
وهكذا تتعقد لوحة التطورات على خلفية الأزمة الأوكرانية، التي من المرجح أن تطول وتتعمق، وفق توقعات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، التي أدلى بها مؤخراً. الأمر الذي سيجعل أفق التحالفات في سوريا مفتوحاً على تغيرات دراماتيكية.
إياد الجعفري _ تلفزيون سوريا