كانت العقوبات أحد أهم معالم السياسة الأميركية ضد النظام الحاكم في دمشق لعقود طويلة، بسبب تصادم السياسات بين الطرفين؛ خصوصاً مع اعتبار الولايات المتحدة نظام الأسد الأب، إلى جانب إيران وكوريا الشمالية، أكثر أنظمة دعم الإرهاب في العالم، وكان هذا أحد أسباب قيامها بسن قوانين واتخاذ إجراءات معاقبة نظام الأسد، والتي ما زالت مستمرة منذ عام 1979.
وبعد تولي بشار الأسد السلطة عام 2000، ووسط تصاعد سياساته ومواقفه في دعم الإرهاب، وتصعيد تدخلاته، ودعم جماعات مسلحة في العراق ولبنان، وضلوعه في جرائم اغتيال قادة سياسيين وإعلاميين، فإن واشنطن تابعت سياسة العقوبات؛ لكنها بعد انطلاقة ثورة السوريين في عام 2011، وذهاب نظام الأسد إلى ارتكاب جرائم تجاوزت جرائم الاعتقال والقتل والتدمير والتهجير، وصولاً إلى ارتكاب جرائم الحرب والتغيير الديموغرافي وغيرها، دفعها ذلك إلى تطوير العقوبات لتشمل كيانات رئيسية منه، وشخصيات فاعلة فيه.
ولا يحتاج إلى تدقيق كبير قول إن محصلة العقوبات الأميركية على نظام الأسد طوال عقود كانت محدودة التأثير؛ بل إنها لم تؤثر بصورة أساسية في تغيير سياساته ومواقفه؛ بل زادتها تطرفاً وتشدداً، وتم استخدام العقوبات لتبرير جرائمه وتصاعدها. ولا شك أن الوقائع الدالة على تلك الخلاصات مجسدة في وقائع ومعطيات معروفة وحاضرة أمام الإدارة الأميركية والمسؤولين فيها، وخصوصاً المعنيين بملف العقوبات على نظام الأسد.
إن المعرفة الأميركية، سواء لجهة المؤسسات أو المسؤولين عن ملف العقوبات، تتجاوز معرفتهم نتائج العقوبات إلى معرفة الأسباب التي أفشلت العقوبات، أو حدَّت من نتائجها على الأقل، وفي مقدمتها إتاحة الفرصة للنظام بمؤسساته وأفراده للتهرب من العقوبات، واللعب عليها بكل الطرق الممكنة، واللجوء إلى سياسات البدائل في العلاقة مع أطراف أخرى، مثل الاتحاد السوفياتي قبل انهياره، ثم روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية، وصولاً إلى بعض الدول الأوروبية والعربية، وأغلبها لم يتأخر عن دعم مباشر أو غير مباشر لنظام الأسد في التهرب من العقوبات، والالتفاف عليها، وتحويلها إلى مجرد كلام لا معنى له، رغم تكرارها المتواصل من الجانب الأميركي.
ومن دون أي شك، فإن مسار ونتائج العقوبات وسياسات الأسد وحلفائه، كانت بين عوامل تركت بصمتها في روح ومحتويات «قانون قيصر» الذي أقرته واشنطن وشرعت في تطبيقاته قبل ثلاثة أشهر، وسط بيئة يوحي فيها نظام الأسد وحلفاؤه الروس والإيرانيون بانتصارهم في الحرب. ولم يعد أمام العالم إلا تطبيع علاقاته مع نظام الأسد، والبدء في إعمار ما دمره في طول البلاد وعرضها. وقد جاء صدور القانون الأميركي ليؤكد رفض واشنطن تلك الأطروحات، وتأكيد كذب ادعاءات النصر، من خلال تحديد هدف القانون بزيادة العزلة المالية والاقتصادية والسياسية التي يعاني منها الأسد، ومحاصرة ومعاقبة حلفائه بغية إجباره على القبول بالحل السياسي للقضية السورية، على أساس قرار مجلس الأمن 2254. وهذه مقاربة أميركية شديدة الأهمية من حيث جعل العقوبات لا تشمل النظام فقط، وإنما تشمل حلفاءه، متضمنة تفاصيل كل طرف من حيث شمولها الكيانات والمؤسسات والأجهزة بكل تخصصاتها، والأشخاص في مختلف مراتبهم ومسؤولياتهم المدنية أو العسكرية- الأمنية، إضافة إلى السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية.
إن تفاصيل أخرى في «قانون قيصر» تعكس ما يمثله من الاختلاف عن العقوبات السابقة ضد نظام الأسد، ومنها الآليات التطبيقية التي تضمنها، والأطراف المشاركة في تدقيق ومراقبة النظام وحلفائه في علاقاتهم وسياساتهم ومواقفهم، وكله يزيد من أهمية التطور الجديد في الموقف الأميركي؛ لكن كل ما سبق لا يمنع من مخاوف ومحاذير تتصل بإمكانية ذهاب «قانون قيصر» في مسار ما ذهبت إليه العقوبات السابقة من فشل في تحقيق أهدافها.
وقبل أي قول في مصير «قانون قيصر»، لا بد من وقفة عند ما بدا في محصلة تجربته عبر الثلاثة أشهر الماضية، وهو وقت قليل؛ لكنه يحمل مؤشرات، يمكن اعتبارها أولية، وتستحق الوقوف عند بعض معطياتها، وأبرزها الجهود الأميركية المتواصلة لوضع كيانات وشخصيات سورية في قائمة عقوبات «قيصر»، وبعض الكيانات وكثير من الأشخاص دخلوا هذه القوائم لأول مرة، بمعنى أنهم كانوا موضع متابعة وملاحقة في علاقاتهم مع النظام، وما يقومون به من عمليات، تجعلهم في قائمة العقوبات. والنقطة الثانية في محصلة الأشهر الثلاثة، أن الاتحاد الأوروبي يجري استعداداته العملية للانخراط في عقوبات جديدة؛ بل بعض دوله بدأت تطبيق العقوبات ضد نظام الأسد.
ورغم أهمية ما قامت به الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لما لهم من وزن سياسي واقتصادي، فإن ما جرى خطوات محدودة من ناحيتين: الناحية الأولى أن العقوبات لم تشمل على نحو واسع حلفاء نظام الأسد إلا بصورة محدودة للغاية، وإن لم يحصل تطور في هذا الجانب، فإن أثر العقوبات على النظام سيكون أضعف مما يتوقعه أحد. فهؤلاء الحلفاء يوفرون سبل بقاء النظام والحفاظ عليه؛ بل ويحاولون إعادة تدويره وتسويقه للمجتمع الدولي، مما يفرض وضع كياناتهم وأشخاصهم بصورة عاجلة على قوائم العقوبات.
النقطة الثانية تتصل بتوسيع إطار العقوبات؛ بحيث تسعى واشنطن إلى ضم مزيد من الدول للمشاركة في فرض عقوبات «قانون قيصر»، مع تركيز خاص على الدول العربية والإسلامية، ومنها بلدان الجوار السوري، وخصوصاً لبنان والعراق، وقد حولت سلطاتهما البلدين إلى متنفس وحدائق خلفية لنظام الأسد في سنوات الصراع، وحصل نتيجة ذلك على منافع كثيرة، وثمة دول أخرى في الطوق الأبعد عن الجوار السوري قدمت دعماً ومساعدات كبيرة لنظام الأسد، ولا شك في أن أغلب هذه البلدان يمكن أن تتغير مواقفها، وتساهم في العقوبات، إذا سعى الأميركيون إلى ذلك.
والخلاصة: إنَّ الوقائع التطبيقية المحيطة بـ«قانون قيصر»، ترسم التحديات التي تواجه سياسات واشنطن في القضية السورية، ولا سيما في ضرورة الضغط عبر العقوبات، لإجبار النظام على التوجه نحو حل سياسي بالاستناد إلى القرار الدولي 2254، ثم تعميم الضغط ليشمل حلفاء النظام الروس والإيرانيين وكل من يؤازره من دول وكيانات وأشخاص، يساعدونه على استمرار سياساته في رفض الحل، وممارساته في استخدام العنف بكل أشكاله ضد السوريين. وآخر التحديات وأهمها يبرز في ضرورة قيام واشنطن بإبراز النتائج العملية للعقوبات، ونشرها على أوسع نطاق وبكل السبل الممكنة، مما يشجع على توسيع موجة الضغط على النظام وحلفائه، ليتم دفعهم للذهاب إلى حل سياسي يقوم على القرار الدولي 2254.
الشرق الأوسط _ فايز سارة