مع دخول العام الجديد، بالرمزية المعهودة للحدث، لا يحتاج السوري تذكيراً بمصائبه. هو على الأغلب يتوسل معجزة ما، ليكون للمعايدة المعتادة نصيب من الواقعية، فلا تبدو عبارة “كل عام وأنت بخير” فيها ذلك الفائض الفظيع من السخرية، سواء قُرئت عطفاً على الأعوام “بل العقود” الفائتة التي لم ينعم بها معظم السوريين بالخير، أو عطفاً على المستقبل القريب جداً.
لم يكن عام 2021 كارثياً بالمقارنة مع سابقه، لقد حمل معه فقط ذلك التردي “المنطقي” في الأوضاع المعيشية، بلا خضات اقتصادية كبرى ضمن بلد لم يعد فيه أصلاً اقتصاد بالمعنى المتعارف عليه. ذلك بالطبع أفضل من الاحتمالات الأكثر سوءاً، لكنه ليس من أفضلها إذا تذكرنا التقديرات المتفائلة بانفتاح الإدارة الأمريكية الجديدة على إنقاذ اقتصاد الأسد، أو تشجيعها سراً ركْب الراغبين في التطبيع معه. حسب مروّجي التفاؤل بسير الأوضاع في اتجاه الحلحلة، كان التغيير منتظراً من خارج معسكر حلفاء بشار، مع الإقرار بأنه هو نفسه غير قابل للتغيير، وهذا ينسحب بدرجات متفاوتة على الحليفين الروسي والإيراني.
خارج مناطق سيطرة الأسد، لم يشهد العام المنصرم أيضاً سوى ما يمكن اعتباره استمراراً لسابقه، ووفق معطيات تقسيم النفوذ كان ذلك أفضل ما يمكن. ساد هدوء نسبي على الجبهات كلها، باستثناء فترات تصعيد محدود أو تراشق بالنيران لا يهدف إلى فتح معركة، وتم تمديد إدخال المساعدات الأممية إلى الشمال السوري من معبر “باب الهوى”، مع تحفظ روسي ينص على أنه التمديد الأخير لإدخال المساعدات عبر الحدود، أي أن الكارثة الإنسانية الكبرى التي يهدد بها الروسي ملايين السوريين مؤجلة إلى الصيف المقبل كأقصى حد. الغرب هو المطالب بدرء الكارثة القادمة، خاصة الإدارة الأمريكية، والمسؤولية عن السوريين “كالمعتاد” ليست على عاتق بشار وحلفائه.
في الجوار، نجت الإدارة الذاتية الكردية من مصير على مثال الانسحاب الأمريكي من أفغانستان. يُذكر أن العام الماضي استُهل “نظرياً” بوعود أفضل لقسد مع مجيء إدارة بايدن، فالأخير قد يغفو أثناء المؤتمرات الدولية إلا أنه لم يُعرف باتخاذ قرارات ارتجالية على غرار سلفه ترامب، وحزبه الديموقراطي هو الأقرب للتعاطف مع الأكراد عموماً. لم يتحقق ما هو نظري، فإدارة بايدن تراجعت عن الدعم الذي أبدته إدارة ترامب في أيامها الأخيرة للإدارة الذاتية، على خلفية تصعيد العقوبات على طهران وبشار، وعادت الإدارة الكردية إلى القلق مما يُطبخ في أروقة واشنطن، بحيث انتهى العام على أقل الخسائر، لا على ما كان متوقعاً في مستهله.
أفضل السيناريوهات لقسد في العام الجديد ألا يحدث ما تخشى منه، لجهة الانسحاب الأمريكي والاضطرار للإذعان لشروط بشار الأسد الذي ينتظر تلك اللحظة بفارغ الصبر. وأفضل السيناريوهات للمناطق الواقعة تحت النفوذ التركي ألا تحدث مواجهة “أو صفقة” بين موسكو وأنقرة تندلع بموجبها المعركة الكبرى، وذلك من المرجح أن يقتضي بقاء التوازنات الراهنة على حالها، فلا تسوء علاقة أنقرة بواشنطن إلى حد يطمع فيه بوتين، ولا تسوء علاقة الأخير بواشنطن أو بأنقرة فيلجأ إلى التصعيد تهديداً بتخريب التوازن برمته.
أما أفضل السيناريوهات لبشار في السنة الجديدة، حسب المتخيَّل وحسب ما هو رائج، فهو أن تُضطر تركيا إلى الانسحاب تحت الضغط، وأن تقرر إدارة بايدن الانسحاب بموجب صفقة ما، مع موسكو أو مع طهران. هو سيناريو طموح جداً، والفائدة المتوخاة منه رمزية لجهة استعادة السيطرة على كافة الأراضي السورية. وبينما يواصل بشار ومسؤولوه التصويب على الوجود التركي “غير الشرعي”، فإن الهاجس الحقيقي هو انسحاب القوات الأمريكية من شرق الفرات، واستعادة السيطرة على الثروات الطبيعية الموجودة فيها.
للوهلة الأولى يبدو السيناريو الأخير فيه إنقاذ أيضاً للسوريين الرهائن الواقعين تحت سيطرة بشار، لأنه سيحسّن من معيشتهم، لكن التمعن قليلاً في الصفقة يُظهر أنها غير مجزية على النحو الذي تُسوّق به. اليوم ثلث السوريين “ضمن الأراضي السورية” يعيش خارج سيطرة الأسد، واستعادتهم مع الثروات الطبيعية لن تُحدث الفارق الذي يُشار إليه لتحسين الأوضاع المعيشية والخدمية. عادة، يسوَّق هذا الاحتمال كأنه ملازم لتسوية كبرى تتضمن إعادة تدوير بشار والشروع في إعادة الإعمار، غير أن الاحتمال الذي كان وارداً في عهد ترامب قبل التراجع عنه بضغط من أركان إدارته، ولا يُستبعد نهائياً تنفيذه في عهد بايدن، هو الانسحاب مع الإبقاء على العقوبات الأمريكية التي تلجم التطبيع وإعادة الإعمار.
الاحتمال الأخير ربما يكون أكبر نصرٍ متاحٍ لبوتين، إذا أتى الضغط الروسي في أوكرانيا بثمار في سوريا، بما أن التنازلات الأوروبية والأمريكية في سوريا أقرب منالاً من التنازل هناك. لكن، خاصة بعد الانسحاب من أفغانستان بطريقة لاقت انتقاداً واسعاً، لن تكون إدارة بايدن مستعدة لخطوات دراماتيكية في السياسة الخارجية مع تربص الجمهوريين الذين ينتظرون أية هفوة يستغلونها في انتخابات الكونغرس النصفية، أي أن الإدارة لن تكون خلال العام الجديد في وارد تقديم تنازلات كبيرة حتى إذا كانت راغبة فيها.
إننا ننتقل فحسب من صيغة التمني في العبارة الأصلية إلى الصيغة التقريرية بعبارة “كل عام وأنت لست بخير”، فاستعراض أقصى الاحتمالات الواقعية يفيد بأن السنة الجديدة قد لا تعدو كونها استمراراً لسابقتها، وفي المنحدر ذاته حيث يُظن في كل مرة أنه تمت ملامسة القاع. يصحّ، لكل طرف من الأطراف السورية على حدة، القول بأن أفضل الاحتمالات خلال العام الجديد هو تحاشي الأسوأ ليس إلا، وحتى أفضل الممكن لبشار الأسد لا يخرج عن الإطار ذاته بالحصول على “ثروات” كي لا نبالغ في تقديرها هي أشبه بحبة مسكّن لمصاب بالسرطان. طوال أكثر من عشر سنوات، انتظر كلّ من السوريين المعجزة التي يتمناها، ولم يحصل طرف منهم على ما يريد، وفي الأصل قد لا يتوافق انتظار النهاية مع السياسات الدولية، إذا اقتضت الأخيرة بقاء بشار والتعفف عن التطبيع معه.
عمر قدور _ المدن