قبل يومين مرت ذكرى الإطاحة بنظام صدام حسين في العراق على يد الأميركيين، في ما عُرف منذ ذلك الوقت من 2003 بالوصف المنحاز: «سقوط بغداد».
جرت مياه ودماء كثيرة في العراق والعالم العربي، ونكاد نتم العقد الثاني، بعد مشهد إسقاط التمثال الكبير للرئيس العراقي القوي وسط بغداد، إيذاناً بمرحلة ملاحقته ومحاكمته وإعدامه. وخلال هذه السنوات الطويلة لا يبدو أن الصدامية تتلاشى كما أمِل كثيرون وقتئذ، لا في بلدها ولا في المحيط الأوسع. وذلك على الرغم من انحسار حاملها الأيديولوجي الذي كان يتمثل في حزب البعث، الذي مرت ذكرى تأسيسه الخامسة والسبعون قبل ذلك بيومين من دون أهمية تذكر. وهكذا بقي صدام، الذي يُكتفى بذكر اسمه الأول عادة، قائداً مفرداً لا تربط بينه وبين جمهوره «أفكار» بقدر ما تفعل كاريزما شخصية متناقلة عبر مقاطع فيديو منتشرة في كثير من الموبايلات.
كانت أكثرية من السوريين تجد في «أبو عدي» نموذجاً أصلح للتماهي معه من رئيسها «اللئيم»، الغامض والبارد والمتباعد
في سوريا كان الموقف من صدام أحد نقاط الافتراق القليلة بين أكثرية السكان وبين السياسة الخارجية لنظام حافظ الأسد. فقد كان معروفاً أن عداء شخصياً، ومتعدد المستويات، طبع علاقة الأسد الأب بمنافسه العراقي على رأس الجناح الثاني للحزب. في حين كانت أكثرية من السوريين تجد في «أبو عدي» نموذجاً أصلح للتماهي معه من رئيسها «اللئيم»، الغامض والبارد والمتباعد. وقد توزعت هذه الشعبية على درجات، من المناطق الشرقية التي تلتقط بث التلفزيون العراقي بأوضح مما تصل إليها القنوات السورية، وحتى المدن السنّية التي لم يرق لها انفراد الأسد بالوقوف في صف إيران، مخالفاً التوجه العربي، في أثناء الحرب العراقية الإيرانية، ثم قراره بإرسال قوات سورية للمشاركة في التحالف الدولي الذي أخرج الجيش العراقي من أراضي الكويت المحتلة وكسر شوكته.
في السنوات الأولى من حكم بشار تحولت العلاقة من العداء إلى الفتور، ثم إلى التعاطف مع تصاعد إيقاع الحرب التي ستطيح بصدام وتفتح الباب أمام احتمالات إكمال المسيرة نحو دمشق التي استنفرت أذرعها القومية لدعم «مقاومة» متعددة الجنسيات والأيديولوجيات ضد إدارة الأميركان وحلفائهم للعراق، وإغراقهم في وحل أمني. وقد أدى المتطوعون السوريون، الذين حظوا بمباركة رسمية وشعبية، قسطهم في ذلك، فضلاً عن الجهاديين العرب الذين فُتحت لهم الحدود.
حين قامت الثورة السورية لعب العائدون من العراق، والمتصلون بتجربتهم، دورهم في إشعال احتجاجات بعض المناطق وتسريع انتقالها إلى السلاح؛ من دون أن يصبغوا الحراك العام الذي كان ظاهرُه الإجماع على مطالب الديمقراطية والعدالة ودولة القانون وتداول السلطة… إلخ. واستمر الحال على هذا المنوال عام 2011 وأجزاء من 2012، حين كانت الثورة تتمدد ونقاط تظاهرها تزداد. أما حين أخذت بالتركز والانحسار تحت وطأة القمع، من الحراك المدني الأوسع إلى العمل العسكري، ومن «أطرافها»، في مناطق الأقليات الطائفية والقومية وفي المدن الكبرى، إلى أرياف عربية سنّية شكلت قلعتها المكينة، فقد رفعت الصدامية رأسها بالتدريج.
وقد ترافق ذلك مع تبلور بنيوي في الخصوم. إذ تصاعد دور إيران وميليشياتها في حماية النظام، من جهة، كما اعتمد الأخير على حزب الاتحاد الديمقراطي PYD، في إخماد الحراك الثوري في المناطق الكردية، من جهة أخرى. وهذان الطرفان، الشيعة و«الأكراد»، خصمان عنيدان للصدامية، بمعنى جذري وعلى مستوى الهويات. وهما المتهمان في قضية «خيانة» صدام وإسقاطه وإعدامه. وبالأصل كان الأمر يتطلب إيماناً راسخاً بحقوق الإنسان ليتفهّم السوري دوافع هاتين الجماعتين «للاستعانة بالأجنبي»، الغربي أو الإيراني، للإطاحة بالديكتاتور الوطني الذي أذاقهم الويلات.
كما دفعت الوحشية المفرطة للنظام السوري نحو تصليب خصومه. فارتفعت لديهم قيم العناد و«الرجولة» والصبر في مواجهة «غدر الزمان» الذي طالما سمح «للكلاب» بالرقص على جثث «الأسود». وهذه، جميعاً، من المعاني الأساسية للصدامية. رسّختها صورة «الرئيس المهيب» الذي كان يدير العراق بطريقة زعيم القبيلة أو كبير العائلة، ومشهده بوصفه «صقر العرب» الأسير في جلسات المحاكمة التي كانت متغربة بما يكفي لمنحه فرصة استعراض قوة أخير.
وأخذ جمهور الثورة الغاضب بالتوافق مع أغنية ظهرت بلهجة ريفية سورية، قالت إنه لو «عايش صدام/ ما كان الطفل السوري بالحسرة ينام». في إشارة، موضوعية ويصعب رفضها، إلى التمدد الإيراني الواسع في المنطقة، والذي كان صدام قد أناط بنفسه وبجيشه «العظيم» الوقوف في وجهه وحراسة «البوابة الشرقية» للعالم العربي من الطموحات الإيرانية التي دأب على وسمها بصفات هوياتية عميقة كالفرس المجوس. وهو ما لم يعد بعيداً عن وعي أغلب مقاتلي الثورة الذين بدت لهم هذه المفاهيم سهلة مع تهاوي البعد السياسي للصراع وبروز وجهه الطائفي. وتنامي طابعه القومي على جبهة نزاع فصائل الثورة مع وحدات حماية الشعب ثم قوات سوريا الديمقراطية (قسد).في مناطق الأسد فيمكن ملاحظة علامات على التصالح مع الصدامية، بوصفها وقوفاً مسبقاً في وجه الغازي الأميركي الذي ينسب إليه النظام تدبير «المؤامرة الكونية» ضدهفي شمال شرقي سوريا، حيث تسيطر الأخيرة وإدارتها الذاتية، لا يمكن رصد معالم جادة لنمو الصدامية في الحياة العامة، فهي من أشد المحرمات هناك. وربما أسهم هذا في ترسيخها كجزء أساسي في هوية المكبوتين من العرب تحت حكم الإدارة التي يغلب عليها النفوذ الكردي. أما في مناطق الأسد فيمكن ملاحظة علامات على التصالح مع الصدامية، بوصفها وقوفاً مسبقاً في وجه الغازي الأميركي الذي ينسب إليه النظام تدبير «المؤامرة الكونية» ضده. ولعل في تغاضي هذه الحاضنة عن الخلاف الشرس بين صدام وبين رمزها المقدس حافظ الأسد دلالة على الجاذبية العالية للصدامية التي تنفذ «قيمها» المبسطة حتى إلى بيئات معادية، وربما مختلفة طائفياً. فسردية «الأسود» و«الكلاب» تصلح للاستعمال هنا أيضاً، فقط بدّل المواقع.
حسام جزماتي _ تلفزيون سوريا