“الزواج مؤسسة قد تكون ليست فاشلة، لكنّ ظروفنا نحن السوريين تهمس بآذننا: هل ستنجبون مزيداً من الضحايا؟”، يقول وائل السيد، متبعاً كلامه بالتأكيد على أنّ ما عاشه في سوريا خلال الحرب ثم النزوح وأخيراً اللجوء، كان سبباً في نظرته “السوداوية” للحياة التي لن تتوقف عند شيء.
اختار شبان سوريون من الجنسين العزوف عن الدخول إلى “القفص الذهبي” (الزواج)، لأسباب تتشابه في زوايا وتتباين في أخرى، لكنّها في الغالب تندرج تحت عنوان الخوف من المجهول.
وتشهد سوريا ارتفاعاً ملحوظاً في نسبة الشبان العازفين عن الزواج، وهي نسبة آخذة بالارتفاع، بحسب ما تشير معلومات من مناطق سيطرة النظام، ومشاهدات من بلاد اللجوء ومناطق النزوح.
أشعر بالاكتفاء
عبير مسعود، شابة من مدينة حماة، تعيش في الشمال السوري، من دون زوجٍ وتقول لموقع تلفزيون سوريا إنّها تشعر بالاكتفاء والرضى، ولا تحبذ التفكير بالزواج.
وتروي الشابة ذات الـ27 عاماً، تجارب شقيقاتها الأربعة اللاتي تزوجن في سن مبكرة، ولم يكملن تعليمهن بسبب الارتباط ومسؤولياته.
وقالت عبير إنّ حياة شقيقاتها المتزوجات عبارة عن تعب وظلم، وإن الظروف الاقتصادية تلقي بظلالها على حياتهن مع أزواجهن، وما ينتج عن هذا من حياة يشوبها البؤس والقهر والخلافات العميقة.
وترى الشابة التي أتمّت تعليمها وتعمل الآن موظّفةً بدخل جيد، أنّها تمتلك حريتها الحياتية، وتشعر بالاكتفاء.
وأضافت: “لست بحاجة رجل يأخذ دور الحاكم والسجان وعليَّ أنا تنفيذ أوامره فقط، هذا ما أشهده في كل علاقات الرجال والنساء أما قضية إنجاب الأطفال والأمومة ليكونوا سنداً لي فهذه أكبر كذبة بعد أن يصبحوا شباباً يعيشون حياتهم ولا يهتمون بكل التضحيات التي قدمتها الأم هذا واقع أراه أمام عيني”، وفق تعبيرها.
وتعتبر عبير أنّ هناك أشياء تجعل من الإنسان سعيداً وحده، وهي أشياء تأتي من خلال التميز والنجاح والحرية الاقتصادية.
“تخليت عن مهمة الحفاظ على الجنس البشري”
أمّا أحمد الرجو، وهو مهندس ميكانيك يقيم في ألمانيا، وقد لامس الثلاثين من العمر، فقد تخلّى من جانبه عن مهمة “الحفاظ على الجنس البشري” كما يقول ممازحاً.
ووصل أحمد إلى قراره عندما وضع تجارب إخوته وأصدقائه على الطاولة وبدأ تشريحها ومعاينتها على حدّ تعبيره.
يقول أحمد: إنّ الشاب المتزوج تتحول حياته إلى مقدم خدمات، فواجبهم أن يعملوا طوال الوقت لتقديم ما تحتاج إليه الزوجة والأولاد، وعندما يعودون إلى البيت يُطلب منهم أن يكونوا رومانسيين مع الزوج، وآباء نادرين مع الأولاد.
وأعرب أحمد عن الصعوبة التي يتخيلها إذا كان مضطراً للقيام بكل ما ذكره، بالإضافة إلى الخروج للتنزه، ومسؤوليات الطبابة والتعليم وغير ذلك مما تفرضه الحياة الزوجية.
ويضيف: “بالمختصر تتحول حياتهم إلى عامل رسبشين يقدم من دون توقف والزبائن.. أقصد الزوجة والأبناء غير راضين عن الخدمة ويقارنون بين واقعهم وواقع من حولهم ويشعرونك بالتقصير الشديد”.
ويرى أحمد أنّ الإنسان يجب أن يعمل من أجل نفسه، كما يجب عليه ادخار الأموال لتحميه في شيخوخته، “فهناك الكثير ممن سيقدمون لك الخدمات بأعلى جودة”.
العالم ليس آمناً للأطفال
وتختلف أسباب العزوف عند الشابين (أحمد وعبير) عن تلك التي يطلقها الشاب الثلاثيني وائل السيد، فهو يرى أن “عزوبيته المزمنة” نابعة من كونه شهد محرقةً للطفولة لا تزال تستعر، بدءاً في مناطق القصف، وليس انتهاءً تحت شوادر المخيمات في الشمال السوري.
وأوضح وائل أنّ حرمان ملايين الأطفال من الأمان، وتهجيرهم أمام عيون العالم أجمع من بيوت عزيزة إلى مخيمات بائسة، يعطي انطباعاً بأن العالم ليس آمناً للأطفال الذين كفلت كل القوانين حقوقهم بالأمن والأمان والغذاء والتعليم والصحة وغير ذلك.
ويختم حديثه بالقول إنّ “هذا الواقع السائد في منطقتنا، يضعنا أمام سؤال وجودي كبير: هل ننجب مزيداً من الضحايا؟”.
آراء الشبان تصطدم بإلحاح الأهل، وجملتهم الشهيرة “ما بدي موت قبل ما شوف ولادك”، وهي جملة أشبه بـ “فيتو” يستخدمها الأب أو الأم أمام قرار الأبناء.
فهذه أم محمود تستخدم هذه الجملة كوسيلة للضغط على وحيدها، لتقنعه بالزواج، لكنّه يقابلها بآلاف الحجج كما تقول.
وتضيف الأم أنّها تجلس ساعات مع ابنها لتقنعه بأنّ “الأبناء يأتون ويأتي رزقهم معهم وأن مصاريف الزواج معوضة وميسرة”، لكن محمود العاطل عن العمل، يتمسّك بقراره.
وتشرح الأم وجهة نظر ابنها، فهو لا يريد أن يأتي بأبناء يعانون ما يعانيه اليوم في حياته، لكنّها تضغط عليه بحلمها أن ترى أبناءه قبل وفاتها، أملاً بأن يعدل عن قراره.
وترى الأم أنّ أصعب شيء في الحياة هي أن يكبر الإنسان وحيداً، وأن يفرح وحده ويحزن وحده من دون وجود من يشاركه مشاعره ومشكلاته، “سيقتله الملل، وتطحنه جدران الغرفة الباردة” تختم الأم حديثها.
مستقبل ضبابي.. وتجارب فاشلة
ولا يعد الامتناع عن الزواج حدثاً جديداً، غير أنّه بات أكثر وضوحاً الآن، وأشد تصاعداً، لا سيما بعد الحرب وما يشهده العالم من أزمات صحية واقتصادية.
ومن خلال استطلاع آراء مجموعة من الشباب السوريين من مختلف المناطق، يتّضح أنّ الإقلاع عن الزواج يرتبط بالوضع الاقتصادي، والخوف على مستقبل الأولاد، وعدم الاستقرار في مكان واحد، بالإضافة إلى عدم الالتقاء بالشريك المناسب.
وتوضح الأستاذة إيمان الشامي، والتي تعمل في مركز أمل للمناصرة والتعافي في ولاية هاتاي جنوبي تركيا، مجموعة من أسباب العزوف عن الزواج، وهي “عدم وجود الشريك المناسب، تكاليف الزواج، مفهوم تمكين المرأة الذي وصل بشكل خاطئ إلى شريحه كبيرة من المجتمع”.
ويضاف إلى تلك الأسباب أيضاً، الظروف الاجتماعية، التي جعلت من كلا الطرفين يحمل مسؤوليات أسرهم بشكل كبير مما جعلهم ينسون أنفسهم بزحمة الحياة.
كما ترى الشامي أنّ أساليب الحياة الجديدة من الانفتاح على علاقات المصادقة والمساكنة، تمنح التعويض عن فكرة الزواج نوعاً ما.
وأردفت أن “التجارب الفاشلة وكثرة حالات الطلاق، وعدم إعداد الشباب لخطوة الزواج بشكل يتمكّنون به من إنجاح حياتهم، يعد سبباً في العزف”.
وأخيراً ترى الشامي أنّ ضبابية المستقبل لجهة عدم توافر فرص عمل تساعد الشباب على التخطيط لأيامهم بشكل صحيح، يعيق التفكير بالزواج.
وتأتي حالات العزوف عن الزواج من أبناء مجتمعٍ يشدّد على ضرورته، ويرفض في المجمل تبريره، أيّاً كانت الأسباب التي تدفع الشخص إلى هذا القرار، ولا سيّما إن كان الدافع اقتصادياً، فكما قالت أم محمود: “الطفل أو الزوجة، يجلبون الرزق”.
ويواجه العازفون عن الزواج اتّهامات وتشكيكاً في أسبابهم، خاصة من أقاربهم، بحسب ما قالوا، وهو ما دفع بعضهم للعزوف عن الارتباط بكثير من الأقارب والأصدقاء أيضاً.
وضحى العثمان _ تلفزيون سوريا