الزواج مؤسسة اجتماعية يختلف دورها وأثرها وآلياتها تبعاً لكل مجتمع، وظروفه، والمراد منه. وتقوم فكرة الزواج في أساسها الديني والاجتماعي على اتفاق طرفين، أو عائلتين على تأسيس أسرة جديدة، لتلبية حاجات رئيسة أبرزها: بناء خلية اجتماعية جديدة، وتلبية حاجات جسدية ونفسية للزوجين، وإنجاب الأطفال، وكذلك: حفظ النوع الإنساني، وتنظيم السلوك الجنسي بين الرجل والمرأة، والعفاف، والمشاركة.. وغالباً ما تكون بداية الزواج على حسابات محددة في المجتمعات الأبوية، وعاطفية، تشاركية في المجتمعات، التي يتمكن الفرد فيها أن يقرر خياراته بنفسه. ولمؤسسة الزواج ضوابط اجتماعية وفكرية وقانونية ودينية وروحية.
متغيَّر اللجوء واختلاف الاستجابات
يتّسم المجتمع السوري باختلاف أوجهه وألوانه وطوائفه بأنه مجتمع محافظ أبوي، يأخذ الأهل فيه دوراً مركزيّاً في قرارات الزواج، قد تتجاوز أكثر من تسعين في المئة، هذا قبل مرحلة الزلزلة السورية 2011 طبعاً.
حالة مُتَغيَّر اللجوء، الذي مرّ به جزء كبير من المجتمع السوري كانت عنيفة جداً، وقد تبدّت تلك المتغيرات في أجواء العائلة وعلاقات الزواج من خلال العناصر التالية:
- متغير ثقافي، تبدّى عبر الاحتكاك بجماعات بشرية جديدة لها قناعاتها وظروفها، التي مكّنتها من بناء مفاهيم الزواج في مجتمعاتها بطرائق أخرى، وقد ترافق ذلك مع اطلاع السوريين على متغير يتعلق في أدوار العائلة والشريك/ة ووظائفهم.
- متغير اقتصادي، نجم عنه اهتزاز اقتصاد العائلة المستقر، وتغيّر الأدوار، إذ باتت كثير من الأُسر بحاجة إلى عمل كل من الرجل والمرأة معاً، بل إن هناك عدداً من الأزواج السوريين عاطلون عن العمل، فيما أتيحت فرصة عمل لزوجاتهم، وبالتالي خلخلة أركان مفهوم “القوامة”، حيث غدا الراعي هو الدولة والقانون، وبات الزوجان كلاهما يعيشان على المساعدة الاجتماعية، كما يحدث في أوروبا. إنَّ تغير الأدوار الاجتماعية لا بدّ أن يكون له أثره على السلوكيات، ففي الوقت الذي كان فيه الأب هو مصدر الاقتصاد والمسؤول المالي، بات – في عدة حالات – الزوجة أو الابن المهاجر أو الابنة المهاجرة هم المسؤولون عن اقتصاد العائلة ومصروفاتها.
- متغير في المفاهيم الدينية ودورها وأثرها، وهل هي المرجع الرئيس أم تواكبها مراجع قانونية أو مفاهيم جديدة، في ظل غياب سلطة “وليّ الأمر” وتغير دوره ومفهومه وفاعليته، واضطرار ظروف الحياة الجديدة لتغير كبير في الفتاوى والقناعات، فماذا يصنع شاب أو فتاة في فتاوى الخمر وهم يعملون في أسواق، حيث سيبيعون الخمر ويمسكونه وينصحون الزبون بأفضل الأنواع مثلاً.
- متغير قانوني من خلال إلزامية الاحتكام إلى قوانين جديدة، تنظم عملية الزواج وعلاقة الرجل بالمرأة في البلاد الجديدة، وكثير من تلك القوانين لا تستمدّ موادّها القانونية من المرجعيات ذاتها الذي كان يستمدّ منه قانون الأحوال الشخصية السوري موادّه.
كانت استجابة الشخصية اللاجئة السورية مختلفة لهذه المتغيرات، بل تكاد كل شخصية لاجئة لها أن تكون لها استجابة خاصة بها، لكن بالمجمل برزت ظواهر مدهشة بالنسبة للمهتمين، كشفت عن بيئة اجتماعية سورية مطّاطة، ربما أشارت إلى شيء من ميزات “الشخصية السورية”، ولعل شعور تلك الشخصية بالحاجة إلى الإنجاز يعتبر محركاً رئيسياً لعملية التغيير الاجتماعي وعمقه، وثمة جانب آخر يشير إليه المهتمون حول سرعة الاستجابة، يتعلق بوجود حالات غير مشبعة أو قهرية كامنة، وجدت فرصة لتعبر عن نفسها بهذا الوضوح خلال فترة قصيرة.
شرق وغرب
المجتمع الأوروبي أحد المجتمعات التي احتكّ بها المجتمع السوري اللاجئ في السنوات الأخيرة، وفي مقارنة مفهوم الزواج والعائلة بين المجتمعين الأوروبي والسوري يبرز مفهوم الفردانية عند الأوروبيين والاجتماعيّ عند السوريين، مترافقاً مع مفهوم آخر حول مرجعية الزواج المدنية أوروبياً، والدينية سورياً.
في المجتمع الأوروبي الزواج حالة مدنية، واتفاق رضائي بين فردين ضمن نواظم البلد القانونية، (تشير الإحصاءات إلى أن أكثر من 50 في المئة من المجتمع الأوروبي لا ديني) ومن المعيب اجتماعياً تدخل الأهل في خيارات الفرد، ويسبق اتخاذ ذلك القرار الفردي المحض نمط من التربية يتمّ من خلاله تأهيل الفرد منذ طفولته المبكرة، لكي يكون مسؤولاً عن ذاته وخياراته، ويترافق مع ذلك العيش في دولة مدنية قطعت علاقتها مع مرجعية الكنيسة منذ سنوات. لا يخلو الأمر من راغبين (قلائل جداً) بتثبيت زواجهم في الكنيسة، (غالباً في آخر العمر أو بعد إنجاب عدد من الأطفال، لكن بصفتها حالة ثانوية وليس حالة مركزية).
في المجتمع السوري الزواج غالباً حالة اجتماعية بين عائلتين، هدفه توطيد الأواصر وتحقيق المصالح، وبناء خلية جديدة، لكل من عائلة الأب والأم نصيبٌ كبير فيها، المرجعُ في دوامه، أو توقفه المرجعية الدينية والعائلية الأبوية، وبنسبة أقل الفردية.
مفهوم الزواج والعلاقة بين الشريكين كذلك مختلف كلياً بين المجتمعين، أوروبياً هو نوع من المساكنة الرضائية التي تقوم على مشاركة الطرفين في كل التفاصيل، عبر مفهوم العدالة بينهما، والإرادة المشتركة، وهو تعبير قريب جداً من مفهوم الدولة المعاصرة الديمقراطية، مع إدراك الطرفين أن مفهوم العائلة مفهوم نسبي، فالدولة لا تريد أن تكرس خلية العائلة بصفتها عاملاً مركزياً، بل بصفتها مرحلة مؤقتة مهمة الأم والأب الرعاية وتنفيذ رؤى الدولة ومفاهيمها العامة في التربية وتنشئة الفرد، وليس سلب دور الدولة أو قوانينها أو أخذها إلى قناعات الأفراد، الاختلاف الرئيس بين النمطين هو كونه يقع في دائرة المؤقت أوروبياً، تبعاً لاتفاق الطرفين وإرادتهما وسعادتهما ورغبتهما، أما سورياً فهو يقع في إطار “إن شاء الله جيزة الدهر”!.
أسئلة تبحث عن أجوبة؟
اهتزّت معظم مرجعيات الزواج سورياً، نتيجة الحرب واللجوء والهجرة، ولعله من الطبيعي ألّا تبقى علاقات الزوجين بعيدة عن ذلك.
وبرزت أفكار تدعو للبحث عن حلول لاتفاقات الزواج السابقة وعاداته وأطره وأنماط العلاقة فيه وضرورة تصحيح مساراتها السابقة، في ضوء المتغيرات الجديدة، مع عدة دعوات تبتغي تطبيق المتغيرات الحياتية الجديدة على علاقات الزواج القديمة بأثر رجعي، والرغبة في اجتراح اتفاقات جديدة للأطر القديمة، وهذا يفترض مرونة كبيرة من طرفيه كي يستمر، لأنه لا يمكنه معاندة متغيرات الجغرافية والزمان والمكان والثقافة الجديدة، وكذلك لا يمكن تحميل الشريك كل أخطاء المجتمع السابقة، ولا بدّ من الاتفاق على أسس ملائمة لطرفيه.
وقد ضعُفَ دورُ السلطات التقليدية المتحكمة في خيارات الفرد وأثرها، ولم تعد موجودة كسلطة أمر واقع، وغدت أبرز سلطة على الفرد هي سلطته هو على ذاته، مع سلطة قوانين الدولة المدنية الجديدة، كذلك ضعف دور السلطة الاجتماعية للدين، بل صارت قناعات الفرد الدينية فيما يخص فقه الحياة اليومية وفقه المعاملات وفقه الزواج هي المرجع لكثير من الأزواج والزوجات.
كان من الطبيعي أن تكون المرأة هي الأكثر مبادرة في هذا السياق، لأنها الطرف الذي أصابه الكثير من الألم والظلم من الشكل السابق للزواج وخياراته وعاداته وتفاصيله، ليس لأن الشكل السابق حالة سلبية أو ظالمة، من الجهة القانونية أو المرجعيات، بل لأن النظام الأبوي: الاقتصادي والاجتماعي والفكري والديني هو المسيطر فيما سبق، وبالتالي غلبة التفسير الذكوري للمعطيات والمرجعيات، لذلك كانت أسهل طريقة عند كثير من الرجال لمحاولة إعادة ساعة الزمن إلى الوراء طريق التهم ذات الطابع الأخلاقي المعياري، أو ارتكاب الجريمة، أو النكوص، أو الطلاق السريع، أو القبول بالأمر الواقع الجديد، أو تطوير سبل إبقاء العلاقة واستمرارها، كانت المعركة كبيرة بين المستقر والمتغير، وكان من الصعب على كثيرين القدرة على إعادة ترسيم الحدود، والتخفّف من حضور المجتمع الأبوي في أنفسهم والانتقال نحو المجتمع متعدد السلطات، والعلاقات والمرجعيات، ووفقاً لـ “صموئيل هنتنغتون” فإن العامل الجغرافي والتكنولوجي والبيئي والهوياتي له أثره في الاستجابة للتغيير، فما بالك بالنوع البشري؟
ولأننا في عصر “السوشيال ميديا” فإنها لا بدّ أن تحضر لإحداث الأثر المطلوب الذي تريده المرأة المظلومة، إنها المرة الأولى في تاريخ البشرية، التي يكون صوت المرأة مسموعاً بهذه الدرجة، وبنفس آليات الرجل وحقوقه وحضوره، ومن الطبيعي أن يكون زخم حضور المرأة جارفاً فيها، فهي أول فضاء عام منقذ لنساء العالم لا يريد ثمناً باهظاً أو يفرض شروطاً خاصة على إعلان كلمتها وصوتها، أما عن حالات الاستعمال السلبية لها أو أن تدخل في أذى الآخرين، فإنه بقي في حدود النسب الطبيعية لاستعمال أية وسيلة جديدة.
لم تحقق الثورة السورية النجاح السياسي الذي تريده في هذا العقد، بل ربما خسرت مرحليّاً، غير أنها حققت نجاحات اجتماعية مذهلة، وكسرت الكثير من السجون والقيود، وفتحت باب المعرفة والحق بالتعبير، وقادت السوريين إلى بيئات ومعارف وتجارب ما كان لها أن تحدث لولا وجود “فعل الثورة”، ونبهت فئاتهم المهمشة إلى أن لها صوت يمكن أن يسمع ويصل له صدى وأثر في هذا العالم!
إن الدعوات إلى عقد اجتماعي جديد في سوريا يجب أن لا تقتصر على المفاهيم الرئيسية، ذات الطابع الوجودي والإنساني والوطني، بل من الضروري أن تنتبه إلى إزالة حالات الظلم السابقة، وأن تضع الحدود لمنع استمرارها، ولا شك أن جانب الزواج بصيغه السابقة فيه الكثير من عدم التوازن والعدالة والتكافؤ.