بمناسبة الذكرى الثانية لرحيل الفنانة السورية مي سكاف، 23 يوليو/ تموز الماضي، أعاد ناشطو الثورة نشرَ فيديو يتضمن قولها: هذه سورية العظيمة، ليست سورية بشار الأسد. ومع محبّتي، وتقديري، وأسفي لفقدنا مي وهي في ريعان الصبا، وتأكيدي أن سورية ليست لآل الأسد، سأتوقف عند صفة “العظيمة” التي أطلقتها على بلدنا سورية.
أفكر، منذ زمن بعيد، بالسؤال: هل سورية عظيمة بالفعل؟ سؤال حساس، بالطبع، وإشكالي، ويفتح الباب واسعاً أمام المماحكات، إِذا لم أقل المهاترات، وخصوصاً عندما أزعم أن سورية دولة صغيرة، وعادية، وضعيفة، وإن إطلاق صفة عظيمة عليها يمكن تصنيفه في خانة الأمل والرجاء، بل إنه أقرب إلى الإنشاء الخطابي الذي أطنب فيه البعثيون، وشاركهم فيه عمومُ القوميين والماركسيين و”القوميين السوريين”، فإذا جاء مَن يحاججهم، ويسألهم: متى كانت سورية عظيمة؟ يردّون بأنها كانت عاصمةَ الأمويين الذين ألحقوا الدنيا، كما يقول سعيد عقل، ببستان هشام.
الدولة العظيمة، برأيي المتواضع، وبكل بساطة، هي التي تكون لها خريطة جغرافية ثابتة، وفيها شعبٌ ينتمي إلى هذه الخريطة، ويدافع عنها بكل قواه، ويكون نظامُ الحكم فيها واضحاً، ومستقرّاً، ولها دستور متفق عليه، وقوانين مشتقة من هذا الدستور، هدفُها حماية الفرد، وصون حريته، وملكيته الخاصة. وبناءً على ذلك، يبدع شعبُها، في آناء الليل وأطراف النهار، لكي تستمر دولته في التقدّم والازدهار. وإذا كانت عظيمةً، منذ القدم، يسعى إلى المحافظة على عظمتها. وإذا كانت في طور النهوض يسعى إلى إكسابها صفة “العظيمة”، ولا يهمه إن تأخر ذلك، أو تحقق على نحو مبكر.
كانت سورية، حتى أواخر سنة 1918، جزءاً من المملكة العثمانية (وهذه، بالمناسبة، ليست دولة احتلال كما تصورُها المناهج المدرسية البعثية، فلو كانت احتلالاً لثار عليها بعض الناس مثلما ثاروا على فرنسا، ولما صبروا على حكمها أربعمئة سنة). وقبل أن تنجز الدولةُ العثمانية “التنظيم الإداري” في زمن عبد الحميد الثاني، كانت تتألف، بحسب كتاب يوسف الحكيم “سورية والعهد العثماني”، من ولاية سورية، ومركزُها دمشق، وولاية حلب، وتشمل أنطاكية وإسكندرونة، وولاية طرابلس، وولاية صيدا، ومتصرفية القدس مركز إدارة فلسطين، إضافة إلى المقاطعات ذات الامتياز الإداري الذي نالته بحكم الأمر الواقع، وتضم أمراء عرباً يمانيين وقيسيين وتنوخيين ومعنيين وشهابيين وأرسلانيين وأيوبيين. وبعد التنظيم الإداري، أصبحت تتألف من ثلاث ولايات: سورية، حلب، بيروت، ومتصرفيتين مستقلتين عن الولاية، مرتبطتين مباشرة بوزارة الداخلية، القدس ودير الزور، (وهناك تفريعات كثيرة).
لو كانت سورية دولة عظيمة، يا سيدتي مَي، لما قبلت بأن يحكمها، بعد انتهاء الحكم العثماني، الأمير فيصل بن الحسين الذي جاء إلى دمشق في سبتمبر/ أيلول 1918، واستُقبل بالزهور والرايات والزغاريد. وأنا، محسوبك، لست معترضاً على شخص فيصل، ولكن يجب التوضيح أن عرش سورية أعطي لوالده الشريف حسين لقاء وقوفه مع الإنكليز في الحرب على العثمانيين، ومساحة سورية التي كوفئ بها الحسين هي التي وردت في خرائط اتفاقية سايكس بيكو بعد استبعاد الساحل الذي احتلته فرنسا قبل انتهاء الحرب، وهي في ظني لا تساوي ربع مساحتها التي كانت قبل التنظيم أو بعده. وكان حريّاً بالسوريين، لو كانوا راغبين في إقامة دولة مستقرّة (عظيمة أو غير عظيمة) أن يسارعوا، فور خروج فرنسا من بلادهم 1946، إلى الاتفاق على خريطة جغرافية يعتبرونها حدودَ دولتهم النهائية، وأن يرفضوا الانقلابات العسكرية، وأن يدافعوا عن النظام الذي توافقوا عليه سنة 1954، ويمتنعوا عن حل برلمانهم، وإغلاق صحفهم، وإلغاء أحزابهم السياسية، وأن يقفوا في وجه مشروع الوحدة مع جمال عبد الناصر، دواليك حتى يصبح وصول القاصر بشار الأسد إلى حكم سورية من ضروب المستحيل.
خطيب بدلة_ العربي الجديد