يفبرك النظام الانتخابات لتوزيع المغانم على من قتل وأجرم من أجله، فيما المعارضة تمارسها، لهندسة نفسها بما يلائم مصالح الدول التي ترعاها …
لم يكن انقلاب حزب البعث واستيلائه على السلطة أواخر الستينات بداية أزمة التمثيل السياسي في سوريا، بمعنى انتخاب برلمان يعكس مصالح الجماعات والأفراد، بل كان تأبيداً لهذه الأزمة واستغلالها والاستثمار بها لتكريس التسلط العسكري وتكثيفه لاحقاً بشخص مستبد.
بداية الأزمة تبدت مع تدخل الجيش في السياسة، حيث انتقل مركز القرار السياسي تدريجياً من المؤسسات لاسيما البرلمان، إلى هيئة الأركان ولاحقاً الاستخبارات العسكرية، وامتلك الضباط نفوذاً وقدرة على التأثير وصناعة السياسة. الجيش أصبح برلمان البلاد، تتنافس الأحزاب في داخله للحصول على ولاء الضباط، لتتمكن من إحداث ما تظنه تغييراً.
ما بين أواخر الأربعينات ومنتصف الستينات، شهدت المؤسسات في سوريا إفراغاً منهجياً لدورها، بسبب الانقلابات المتتالية، وما كرسته من تقاليد راديكالية من أساليب الحكم والإدارة. كان ذلك مشفوعاً بضعف تكويني لدى المؤسسات نفسها، والموروثة عن إصلاحات العثمانيين وحقبة الانتداب الفرنسي دون اجتهادات محلية تلحظ.
والبعث استثمر في فراغ المؤسسات، مستولياً على بقاياها عبر فكرة الحزبية، حيث ابتلعت الأخيرة البرلمان والحكومة وأعادت انتاجهما بشكل صوري، ضمن نظام سلطوي، تمركزت نواته الصلبة في شبكة عائلية وأمنية وعسكرية وطائفية ومناطقية يمسك بخيوطها مستبد واحد. توازى ذلك مع استعارة فكرة “الديمقراطية الشعبية”، من “الأخوة السوفيات”، والتي تجهر بتمجيد الشعب وفي الآن عينه، تضمر احتقاراً له ينطوي على ضرورة وجود طليعة ثورية عارفة تقوده وتحدد طريقه.
والبرلمان الذي بات منزوع القرار، تحول في العهود الأسدية المتتالية مسرحاً للمصالح الشخصية الضيقة، وآلية من آليات الزبائنية التي اتبعها الاستبداد وما زال. ما يعني أن الأسدية ورثت الخلل الذي صنعه العسكر في العلاقة مع المؤسسات، ولم تكتف بإفراغ الأخيرة من مضمونها بل انتجت بدائل لها، تتراوح وظائفها بين صناعة التأييد وبين صناعة الخوف لضمان التأييد. وعليه، المسافة بين السوريين وبرلمانهم التي كانت شاسعة قبل الأسدية، ألغيت تماماً معها، وأصبح النواب يمثلون النظام، على تفاوت علاقاتهم به. ورغم أنهم ينتمون إلى مناطق ومدن وقرى وطوائف واثنيات وقوميات مختلفة، لكنهم مفصولون عن هذه الانتماءات، ويلعبون دورهم في إنكار مصالح من يفترض أن يمثلونهم، عبر استبدالها بمصالحهم الضيقة التي تكفلها آلية النظام الزبائنية.
لكن تحولاً ما طرأ في علاقة النظام ببرلمانه، بعد انطلاق الثورة، وتحديداً الآلية الزبائنية، فخلال الانتخابات التي تمت فبركتها، صعدت وجوه إلى ما يسميه النظام “مجلس الشعب”، غالباً ما استبسلت في الدفاع عن الأسدية ضد الثورة المندلعة ضدّها. فنانون وصحفيون وإعلاميون، تمت مكافأتهم على مواقفهم المؤيدة بمنحهم مقعداً في البرلمان. والأرجح، أن الانتخابات التي تنطلق الأحد، ستشهد فصلاً جديداً من فصول الزبائنية، إذ تشير تقارير إلى أن قادة المليشيات التي قاتلت إلى جانب النظام، سيتم منحها مقاعد في المجلس الجديد، ما يعني أن البرلمان سيطعّم بأشخاص متورطين بعمليات القتل والتهجير التي شهدتها البلاد خلال السنوات العشر الأخيرة.
وإذا كان النظام يتعامل مع الانتخابات بوصفها أداة لصناعة برلمان يؤمّن توزيع المغانم على الموالين، ضمن زبائنية تطورت أشكالها وتغير المستفيدون منها بعد اندلاع الثورة، فإن المعارضة تتعامل معها بوصفها أداة لتبادل المناصب. ففي الانتخابات الأخيرة داخل الائتلاف الوطني، فاز نصر الحريري في منصب الرئيس فيما خلفه الرئيس السابق للائتلاف أنس العبدة بمنصبه كرئيس لهيئة التفاوض. الحريري والعبدة تبادلا المناصب إذاً، في انتخابات تُمَارس داخل هيئة حصلت على شرعيتها من الثورة. ورغم كل التحولات التي مرّت بها الأخيرة وما استجد من صراعات أهلية وتدخلات إقليمية واستعادة النظام لمساحات كبيرة من الأراضي السورية، بقيت الهيئة تلك مرتبطة بشرعيتها الأولى لحظة خروج أول التظاهرات ضدّ نظام الأسد. وانكار التحول والتمسك بما سبقه، لا يضمر فقط انفصالاً عن شارع المعارضة، بل وأيضاً التنافس على مناصب باتت ضرورية لا لتحسين شروط أهل الثورة الموؤدة، من نازحين ومعتقلين ومطحونين معيشياً، بل لتمرير أجندات دول في لعبة التفاوض مع النظام.
هكذا يفبرك النظام الانتخابات لتوزيع المغانم على من قتل وأجرم من أجله، فيما المعارضة تمارسها، لهندسة نفسها بما يلائم مصالح الدول التي ترعاها خلال عملية التفاوض. والسوريون هم الخاسرون في الحالتين، إذ يتم إلغائهم، مرة بالاستبداد وآلياته، وأخرى بالمعارضة ومصالحها التي تقلصت إلى مناصب يدور حاملوها في فلك الدول وأجنداتها.
الكاتب: إيلي عبدو _ درج